عندما يموت الراعي
( من يوميات حمل غير وديع)
بقلم محمد نديم علي
وديعا كنت وما زلت ،تعشقني المراعي لنزقي وشقاوتي ونعومة فرائي ، فصرت وسط القطيع حملا مطيعا.أنصت لنغمة الناي إذ يطمئن لها قلبي ، فأنساب وسط أفراد القطيع نلتهم الحشائش عن رضا ، ونسير وفق إشارة راعينا عن طيب خاطر. كيف كان يبدو ؟ هل كان طيبا ؟ هل كان ودودا؟ لا ندري. لم يكن مسموحا لنا أن نقترب منه ولم نكن نجرؤ أن نحلم بالنظر إلى وجهه.
********
كانت وسيلة الحوار بيننا هي العصا ، يهش بها علينا، فنلزم القطيع ، وصوته الجهوري يصيح فينا فنسير معا ، نحو العشب في كل أرض قاحلة ، كتلة واحدة ملتصقة بزيت الصمت.
*********
كانت مسؤوليته وحده أن يقرر إلى أين نتجه ، وكانت نظرته هي التي تحدد أين موقع الزاد ، وكان حدسه بوصلة تمكنه من أن يتوقع منابع الماء فيهرع بنا إليها، و مكامن الخطر ،ومرابض الذئاب فينأى بنا عنها . وكنا نلزم الطاعة ، نضع رؤوسنا بين أقدامنا الأمامية وندس أنوفنا في تراب الأرض، نفتش عن طرف عشبة هنا أو رأس نبتة هناك.ونعود أكثر صمتا ، وأثقل حركة كي تكتظ بنا مهاجعنا المسكونة بالرتابة والعطن، دون أن نرفع الرؤوس.
********
(الراعي ما زال يغني)
مرت مواسم التسمين حلوة هنية ، ولم نشعر أننا قادمون على مواسم للذبح المنهجي، دون أن يجرؤ أحد منا على الاعتراض.القطيع يهيم إلى حيث تشير العصا،والحملان تكبر ، وتنتفخ بطون النعاج ، وتتضخم قرون الكباش ، وما زلت بين الحملان التي تركض فرحة ببعض العشب وقليل من الماء. ما زلت غريرا ، لكن بقدوم الربيع شعرت بأنني متميز،وما زلت ، إذ لا أطيق الحدود والخطوط والعلامات على طريقي ، كنت وما زلت عاشقا للريح لا تحدها صيحة، ولا تمنعها عصا راعٍ متسلط.أعشق حياة حمل نزق لم ينضج بعد ، و أرفض وبشدة أن أشب عن الطوق إلى مرحلة الكباش ، خوفا من أن يكون لي قرنان كبيران لا فائدة فيهما.
********
وتمر مواسم للتسمين تتلوها مواسم للذبح.
(والراعي ما زال يغني ...)
ذات العزف على نايه المشروخ، وذات الوعود في أغانيه ، وذات الأماني يخدعنا بها أن يسوقنا نحو مروج لا تذبل حشائشها ، وأرض لا ينقطع مطرها ، وتلال لا ذئاب وراءها
(.لم يصدقه قلبي الصغير، رغم حلمي المشروع بما وعد ليل نهار.)
*****
(ما زالت الكباش تشتبك بقرونها، في صراع مقيت على النعاج ، ولكنها تنحني وتذوب طاعة أمام الراعي.أما النعاج فحدث ولا حرج ، فهن آلات حاسبة مثالية و قوية الذاكرة : حملا ووضعا وإنتاجا للحليب.كم تمنيت شربة لبن من نعجة قالوا أنها أمي ، وتمنيت أمنا بين صوف كبش ذي قرنين هائلين قالوا إنه أبي.كيف له إذن أن يهملني؟!!)
(كيف له أن يتسبب في إنجاب حملان نابهة وطموحة مثلي ، وقد كان مكتنز اللحم ، وكان خصيا؟)
*********
كنت وما زلت ، راسخ الاعتقاد بأنني كنت وما زلت ابنا للشمس والنسيم والمروج، وصديقا للنبع الصافي ، والعشب الطري، والفراشات الملونة، والأرانب البرية.
فلا أنا ابن نعجة ولا أنا سليل الكباش.
*****************
وننتظر المطر القادم من خلف حدود الغيب ، ونحملق في اللحظات .
(والراعي ما زال يغني .)
******
أشيع في مرعانا والمراعي المتاخمة أن راعينا قد .. عقد صفقة سلام غير قائم على العدل مع الذئاب ...كي يتفرغ للعزف على الناي ومطاردة الفراشات ، واصطياد إناث الأرانب خلف التلال.
( ماله والذئاب ؟ !! ماله ووجع الرأس؟)
ليتفرغ للغناء كي يستحث المطر أن يسقط ، والنماء أن يعم ، ومخازن غلاله أن تنتفخ ، ولنا أن نسمن استعدادا لمواسم الذبح.
(يشاع في مرعانا والمراعي المتاخمة أن راعينا كبش خصي مكتنز اللحم)
************
(والراعي ما زال يغني )
حينما درت وراء التل ،علِّي أجد وراءه عشبا نسيت يد القحط أن تخنق ماء الحياة فيه ، أو أصادف نبتا جافا ما زال منتصبا بين حبتي رمل.هناك سمعته يغني ، و رأيته للمرة الأولى رأي العين ، نعم رأيت الراعي ، كبشا ذي قرنين هائلين ، وهو يطارد إناث الخراف وراء التل ، فشممت ريح الذئاب تعم المكان ، وتسمم الهواء برائحة عوائها المقيت.
************
(الراعي ... هل كان يغني؟)
عندما عدت فزعا عند الغروب ،لم يكن أحبائي في القطيع حولي ـ لم أجدهم جميعا ، التمست ريحهم ، فرأيت فراءهم فوق الأرض القاحلة ، مبعثرا ، قاني اللون ممزقا. وعلى البعد تناهى إلىَّ صوت الراعي يتمزق إربا إربا في جوف الذئب.