فلسفة الجوع
بقلم خالص جلبي
كنا نغسل أيدينا قبل دخول العمليات أنا وزميلي الألماني (موسيجنز) حين احتدم النقاش كالعادة بين ثقافتين، ما يشبه نقاش الصيني والبريطاني؛ حين عاب البريطاني على الصيني وضع الطعام على قبر الميت؟ هل يعقل أن يقوم الميت فيتناول وجبة الغداء؟ كان جواب الصيني: وهل يعقل أن ينهض من قبره والكفن فيشم رائحة الورود التي تضعونها على القبر؟
مع هذا اعترف موسيجنز لي بأن المسلمين بهذا الانضباط في القارات الخمس، أن يحرموا أنفسهم من الطعام والشراب والاتصال الجنسي وتعاطي الدخان للشرهين فيه معنى كبير.
ولذا فأكبر معنى في الصوم هو التقوى، أي الانضباط الأخلاقي، (لعلكم تتقون) فلم نسمع يوما عن عشب انتحر، أو قطا صام وجاع بإرادته، ولكن الإنسان يفعل هذا بإرادته فيصوم ويفجر نفسه بالحزام الناسف.
وهنا يبدو تعالي الإرادة على نداء الغريزة، لأن الغريزة تريد المحافظة على الحياة، ومنه الغريزة الجنسية التي تعمل داخلنا بأشد من فرن الأفغاني؟! لأن الغريزة تحافظ على الحياة، وتكررها وتمد في عمرها. والانتحار استقالة من الحياة؟
الانتحار وتفجير النفس، أو حتى الصوم، يمشي بخط معاكس تماما لقوانين الغرائز، وهو يعني تعالي الإنسان عن الحيوان، والبهيمة بدن جعلها الله لنا، لنذكر اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها، فأطعموا منها البائس الفقير، وأطعموا القانع والمعتر، كذلك سخرها لنا لنذكر الله على ما هدانا، ورزقنا من بهيمة الأنعام..
وأذكر من مدينة القامشلي التي نشأت فيها أن النصارى كانوا يصومون عن البروتينات، فلا يأكلون لحما وبيضا، ولكنهم كانوا يشربون الماء.
وصديقي العراقي أبو كمران ـ رحمه الله ـ كان يقول ليت الصيام كان عن الطعام وليس عن الماء.
ونحن في المشافي نفعل عكس ما كان يطلبه أبو كمران، فعندما يأتي مريض مصاب بالتهاب معدة حاد وإقياءات وما شابه، أو حتى في حالات البطن الحادة، فإن الدرس الأول هو حمية المريض عن كل ما يدخل البطن من السوائل والأطعمة، وهو صورة من صور الصيام، وخوفا من التجفف فهم يعوضون البدن بالمغذيات بالمحاليل الوريدية، بسبب حاجة الجسم ما لا يقل عن ليتر ونصف في الـ 24 ساعة.
وحسب أبو حامد الغزالي أن الجوع يعين على السهر، ومن أكل وتخم مال إلى النوم، ومن أكل القليل صح ونشط وأخذ حاجته، وحاليا برزت إلى السطح دراسات عن أثر الصيام في صحة الأبدان، ما عرفت بنظرية القرود الجائعة، فقد أفرد الباحث فايندروخ 30 قردا في مجموعتين ولمدة 17 سنة، أطعم الفريق الأول لحد التخمة بدون حدود، وجاع الثاني وأعطاه أقل من حاجته بـ 30% من الكالوري، فكانت النتيجة أن المجموعة التي أكلت بشراهة مرضت وضعفت ونفق أكثر من النصف فمات من أصل 15 ثمانية، وأما الفريق الثاني فبقي يقفز بمرح ويقشر الموز بخفة، وعاش صحيح البدن بدون علة، ومات منه الثلث، مما جعل الفريق العلمي يستخرج القانون الذي يقول أن تأكل أقل من الحاجة بـ 30 إلى 50% يجعلك تعيش بمقدارها من الثلث إلى النصف، فيصبح المعمرون فوق مائة عام النشيطون عاديون جداً. وحاليا في ألمانيا يوجد أكثر من مائة ألفا يزيد عمرهم عن مائة عام.. ولكن من يستمع لحديث العلم أمام الرز والكبسة والمحاشي والحلويات؟؟ جاء في الحديث بل أجوع يوما وأشبع يوماً.. وهو خلاصة نظرية القرود الجائعة.. ولكن البشر يمكن أن يكونوا كما قال الرب عبدة الطاغوت وقردة وخنازير..
ومن أجل هذا شرع الصوم لإنتاج الإنسان المحرر.. من الغرائز..