نقد الكتاب و المؤلفات و الأقوال
"هيهات: هيهات إن في مجال الكلام في الرجال عقبات،
مرتقيها على خطر ، و مرتقيها هوى،
لا منجي له من الإثم و لا وزر ،
فلو حاسب نفسه الرامي أخاه: ما السبب الذي هاج دلك ؟
لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك "
الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي
يقول الدكتور محمد مندور :
"إن الأديب أو الفنان يجب ألا يعيش في المجتمع ككائن طفيلي أو شاد أو
جبان، هارب أو سلبي باك، أو مهرج ممسوخ"
و يقول مفكر عصر النهضة الفرنسي "رابليه":
"إن علما بلا ضمير خراب للنفس، و مصير الإنسانية كلها رهين بتنمية
هذا الضمير بفضل تحمل الأدباء و الفنانين لمسؤولياتهم كاملة،
و السير بتلك المسؤولية بنفس الخطى الحثيثة التي يسير بها اليوم التقدم
العلمي" .
المسلمون اليوم يحاولون بعد طول رقاد أن يلتمسوا الطريق نحو نهضة
علمية و فكرية، ووثبة حضارية تعيد العزم المفقود ،
و تسترد المجد السليب ، كما يطمحون للعودة
إلى الخلافة الراشدة، القائمة على الفهم الصحيح للإسلام،
و بسط سلطانه على الحياة في جميع شؤونها.
و من أجل الوصول إلى هدا الهدف الكبير،
تجند الكثير من العلماء و الفقهاء و الأساتذة،
و ألو الألباب، فنتج عن دلك ظهور نوع من الفكر الإسلامي، قام بتأريخ
الحضارية الماضية ، و كتب عن الحاضر ، ثم قام بالتنظير للمستقبل.
و في هدا الخضم المبارك من الكتابات الجادة ، ظهرت عملية النقد كفرع
من فروع العلوم الإنسانية الدي أخد على عاتقه دراسة و استقراء
الأعمال الأدبية أو العلمية أو التاريخية.. فصارت مهمة الناقد هي
التفسير دون التحيز إلى طرف دون آخر، أو فكرة على حساب أخرى،
مع الاستيعاب الكامل لأعمال زمانه، مؤمنا بأن وراء إمكانات فهمها
آفاقا بعيدة.
و من هنا يصح أن نطالب بوجود الناقد الذي يزن الأعمال بميزان أكاديمي
نزيه فالسؤال الدي يطرحه الناقد هو :
هل ما قيل قد اندمج في سياقه البشري؟
و لكن الحقيقة هي أن النقاد يهملون مسؤولياتهم ،
و يتخذون سبيل المجاملة ، فيضيعون الحقيقة.
و نستحضر هنا كلاما للشيخ بن تيمية يقول فيه:
"فإن أكثرهم –أي أصحاب المقالات- قد صار لهم في دلك هوى أن ينتصر
جاههم أو رياستهم و ما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي
العليا ، و أن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم،
و إن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ،
و يرضون عمن يوافقهم، و إن كان جاهلا سيئ القصد، ليس له علم و لا
حسن قصد ، فيفضي هدا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله و رسوله،
و يدموا من لم يدمه الله و رسوله،
و تصير موالتهم و معاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله و
رسوله ..."
و هده الظاهرة قادرة وحدها على إحداث الفتنة
في صفوف المسلمين، و هي بدلك خلل فكري، و قصور منهجي.
إن النقد الموجه لرجل ما، أو لمؤلف من المؤلفات، لا يجب أن يكون واقعا
في الشخصية و الذاتية، منحرفا عن الموضوعية الواجبة في هده الحالة.
يقول الله عز و جل في سورة النساء الآية 135:
*ياأيها الدين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله و لو على أنفسكم آو الوالدين أو الأقربين*
فالتجرد في القول و العمل و سلامة القصد، أصل مهم في تقويم الرجال و المؤلفات ، حتى إن كان رأي الناقد صحيحا،
لكنه خلا من قصد النصيحة و طلب وجه الله تعالى ،
فإن هدا النقد مردود على صاحبه.
هدا و إن الخلاف أمر طبيعي، بل و صحي في كثير من الأحيان ،
طبعا إن كان يتطابق مع المعايير السليمة. و كل ما يذكره الإنسان قابل
للخطأ و للصواب، إلا ما نطق به المعصوم سيدنا محمد
عليه الصلاة و السلام، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى.
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله :
"إنما أنا بشر أخطئ و أصيب ، فانظروا في رأيي
فكل ما، وافق الكتاب و السنة، فخذوا به،
و كل ما لم يوافق الكتاب و السنة فاتركوه"
و قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله :
"لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي، حتى يعلم من أين قلت "
و هذا كان منهج الأئمة و الصالحين ، في زمن كان يعرف به الرجال بالحق
و ليس كما هو الحال عندنا نعرف الحق بالرجال.
إن العاقل هو الدي يبحث عن الحق و يعرفه ، ثم ينظر في القول نفسه،
فيخضعه للحق الذي عرفه ، فإما يقبله أو يرفضه.
ما من شك في أن النصف الأخير كان من أخصب الفترات في تاريخ الفكر
الإسلامي ، و بعبارة أدق ، في تاريخ الكتابة و التأليف عن الإسلام..
و ما من شك – أيضا – في أن أهم ما تميزت به جل معطيات هذه الحقبة
الحديثة من الزمن هو – التعصير – أي محاولة طرح القيم و المفاهيم
و القضايا الإسلامية من وجهة نظر معاصرة أسلوبا، و منهجا،
و موضوعا..
و لابد إذا إزاء هدا التكاثر - الدي هو بحد ذاته ظاهرة صحية تملأ قلب
المثقف المسلم بالثقة و الأمل و الاعتزاز- لابد من وقفة نقدية
تضع يدها على ما يعانيه بعض هدا العطاء من مناقص،
و ما استمرأه من عيوب، إن على مستوى المنهج أو الموضوع..
لا بد من إشعال الأضواء الحمراء على درب الحركة التأليفية،
كيلا توغل فيما يمكن أن يحمل الفكر الإسلامي و مناهجه بالكثير من
الأوهان و الأخطاء..
و لكن نريد هنا النقد المحب المخلص ، لا النقد الدي ينطوي على الكراهية
و المكر، يتتبع العثرات ، و يبحث عن الهفوات ،
و رحم الله الإمام الشعبي إذ يقول :
"لو أصبت تسعا و تسعين ،و أخطأت واحدة ،
لأخذوا الواحدة، و تركوا التسع و التسعين "
و هده القولة ذكرها أبو نعيم في حلية الأولياء . و حتى نحصل على النقد
الموضعي الصحي، نطرح سؤالا مهما جدا :
من الذي يمارس النقد ؟
يقول الاستاد عمر عبيد حسنة أن وجود قدر بسيط من الثقافة ،
المترافق مع الحماس ، و الانتصار العاطفي للإسلام ،
و الإخلاص في الرغبة لنصرة الدين ،
و انتصاره ، لا يؤهل صاحبه ليكون من النخبة ،
أو من أهل الحل و العقد ، و لا يجعله أهلا للفتيا في النوازل و المشكلات
التي تعرض للحياة الإسلامية ، و لا يجعله فقيها ، قادرا على الموازنة ،
و المقارنة، و المقايسة، و الترجيح بين الأدلة،
وتقدير الاستطاعة أو النظر في محل الحكم..
كما أن القدرة على الخطابة، و استثارة العواطف،
و إثارة الرأي العام، و زيادة التوثب و الحماس،
دون كسب للعلوم الشرعية ، و التحقق بها ،
لا تؤهل صاحبها لأن يكون من أهل الحل و العقد ،
أو من النخبة التي تمثل الرأس المفكر ن و المخطط للأمة ،
كما أن مجرد الانتساب إلى الجماعات و المؤسسات
و التنظيمات و الجمعيات الإسلامية،
لا يكفي وحده لأن يجعل صاحبه في أهل الحل و العقد،
و لا يجعل منها فقيها ، قادرا على الفتوى في نوازل الحياة ،
إدا لم يتوفر على مرجعية شرعية ،
تشكل له مركز الرؤية ،
و تخصص في أحد فروع المعرفة ، و إحاطة بعلمه .."
و لعل من المؤشرات الخطيرة، غياب العقل الإستراتيجي، عن الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة، العقل القادر على استشراف الماضي ،
و فقه الحاضر، و إبصار المستقبل، في ضوء عطاء الوحي و هدايا ته،
و كسب العقل من خلال التخصصات المتعددة ،
التي لا بد منها لتشكيل العقل الجماعي للأمة
إن الحركة الإسلامية المعاصرة ، مدعوة بإلحاح إلى ضرورة إحياء الملكة
النقدية عند رجالاتها ، و تربيتهم على وزن البراهين ، و الأدلة و الحكم
عليها قوة و ضعفا ، لكي يتم ترميم البناء من الداخل ، و هدا سوف يقطع
الطريق بلا شك أمام الفكر الدخيل و الرأي العقيم كما أن النقد يعتبر من
التواصي بالحق، الذي أمر به الله سبحانه و تعالى، و هو أيضا في باب
النصيحة التي تؤدي إلى تطهير الصف ، و تماسكه و ثباته .
و نختم بمقال للإمام بن قيم الجوزية رحمه الله تعالى يقول فيه :
"عادتنا في مسائل الدين كلها دقها و جلها، أن نقول بموجبها
و لا نضرب بعضها ببعض . و لا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق
كل طائفة على ما معها من الحق و نخالفها فيما معها من خلاف الحق ،
لا نستثني من دلك طائفة و لا مقالة ، و نرجو من الله أن نحيا على ذلك
و نموت عليه،و نلقى الله به. و لا قوة إلا بالله "
تم و لله الحمد و المنة
إعداد: نادية المغربية- عام 1992
المراجع المستعملة في البحث :
1-القرآن العظيم
2-منهج أهل السنة و الجماعة في تقويم الرجال و مؤلفاتهم
لأحمد بن عبد الرحمن الصويان دار قرطبة – المغرب
3-النقد و النقاد المعاصرون د .محمد مندور مطبعة نهضة مصر
4-رؤية إسلامية في قضايا معاصرة
كتاب الامةعدد 45 -1316ه