مابين انتهاء حرب الاستنزاف في الثامن من أغسطس 1970 م ، وسقوط بغداد في التاسع من أبريل 2003م تاريخ طويل وحافل بالمتغيرات والأحداث ، سقطت خلاله كافة الأوهام التي بنيت عليها سياسات تخلت عن المشروع القومي العربي ، لتدور في فلك الهيمنة الأمريكية ، والتي تكشف وجهها الحقيقي عندما استباحت جيوشها أرض العراق لتطأها جحافل "المارينز" ، إيذانًا ببدء موجة تتارية جديدة أخذت في طريقها الأخضر واليابس ، فاستباحت الدماء ، وانتهكت الحرمات لتلوح بعصا الطاعة للجميع ، و مابين التاريخين ، تبدلت أحوال وتوارت - خلف غياهب الزمان ، وتحت أقدام العرب أنفسهم - التطلعات القومية ، والأماني الوحدوية ،بينما تواصلت التنازلات ، تنازلُ تلو الآخر ، تنازلات بدأت بالمصالحة مع عدو تاريخي ، وانتهت بالخضوع لمشروعاته الاستعمارية ، وتنافس المهرولون لنيل رضا واشنطن عبر تل أبيب فسقطت الإرادة ، وضاع القرار.
إن إدراك ما حدث عشية سقوط بغداد ، والأحداث التي صاحبت الغزو الأمريكي للعراق ، يعود بنا إلى أكثر من نصف قرن مضى من الزمان مع بدء اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالشرق الأوسط ، وتطلعها إلى السيطرة عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وانحسار نفوذ الاستعمار الغربي التقليدي ، وظهور الولايات المتحدة كقوة جديدة في العالم الغربي في مواجهة العملاق السوفيتي الذي كان يحاول هو الآخر بسط نفوذه هنا وهناك ، وفي ظل مرحلة مخاض ثوري كانت تكتنف العالم آنذاك بدأت حرب من نوع خاص بين العملاقين الكبيرين ، اصطلح على تسميتها بـ"الحرب الباردة" ، والتي شهدت رغم برودتها أشد الصراعات سخونة ، وأكثر المعارك دموية في كوريا وفيتنام والسويس والمجر وكوبا وغيرها.
كان الشرق الأوسط من أشد بؤر الحرب الباردة سخونة لقرابة ربع قرن من الزمان ، حيث كانت المنطقة محط تطلعات المعسكرَيْنِ المتنافسَين على مناطق النفوذ في العالم ، وكان الشرق الأوسط يمثل للولايات المتحدة أهمية إستراتيجية قصوى ، من حيث الموقع الجغرافي المتميز ، وموارد البترول الغنية ، وقناة السويس ، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني الوليد في فلسطين ، والذي كان يرتبط آنذاك بشبكة من المصالح مع الولايات المتحدة التي أرادت أن تكون إسرائيل قاعدة متقدمة للمشروع الإمبريالي الأمريكي في الشرق الأوسط في محاولة لاحتواء وتطويق المد الشيوعي ، وضمان عدم وقوع المنطقة تحت النفوذ السوفيتي مثلما حدث في الهند الصينية وكوبا وفيتنام ، ومن هنا بدأت مشروعات الهيمنة الأمريكية بـ"مشروع ترومان" عام 1949م، والذي عرف باسم النقطة الرابعة نسبية إلى المادة الرابعة منه، وتضمن إمكانية تقديم مساعدات سياسية واقتصادية وعسكرية إلى دول العالم العربي الواقعة تحت النفوذ الغربي، ثم تبعه مشروع "القيادة الرباعية للشرق الأوسط" في عام 1951م، بهدف إقامة سلسلة من التحالفات السياسية والعسكرية مع دول المنطقة ، ثم مشروع "قيادة الشرق الأوسط العسكرية" عام 1953م، أو الحزام الشمالي للمنطقة التي تضم بعض الدول العربية وبعض دول الجوار في آسيا خاصة إيران وباكستان وتركيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا ، ونتج عن ذلك ما عرف باسم "حلف بغداد" ثم جاء "مشروع ايزنهاور" لملء الفراغ عام 1957م ، ليعبر عن واقع سياسي إقليمي ودولي جديد بعد حرب السويس عام 1956م، وكان هدفه فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة ، في مقابل تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية وإدراج إسرائيل كعضو فعال في المنطقة في ظل المشروع الإمبريالي الأمريكي.
وعلى صعيد الوضع السياسي في الشرق الأوسط كانت المنطقة العربية بالكامل تئِنُّ تحت نير الاستعمار الغربي ، بعد أن قسَّمت اتفاقية "سايكس بيكو" تركة الرجل الأوربي المريض (تركيا)، بالتواطؤ مع عروش عربية فضلت مصالحها الخاصة ، وضمان بقائها في الحكم على مصالح شعوبها التي كانت تعاني من وطأة الاستعمار ، فمصر قلب العالم العربي كانت واقعة تحت وطأة حكم ملكي فقد سيطرته على كل شيء ، وباتت أهواء الملك العابث تدفع بوضع نهاية لهذا الحكم الوراثي ، وفي الأردن كان العرش الهاشمي الذي وجد من لا شيء يحاول التشبث بالبقاء ، بعد أن طُرد ملوكه وأمراؤه من الجزيرة العربية إبَّان قيام الدولة السعودية ، في حين ربط العرش الهاشمي الآخر في العراق نفسه بالمشروعات الغربية ، فكان "نوري السعيد" وكيلاً عن بريطانيا في المنطقة قبل أن يكون رئيسًا لوزراء العراق ، وفي سوريا ولبنان كان الواقع السياسي غير مستقر وشديد الاضطراب ، وفي الجزيرة العربية لم يكن الوضع أفضل حالاً ، فالسعودية ربطت نفسها بالولايات المتحدة التي سارعت إلى إحكام هيمنتها على ذلك البلد الغنى بموارد البترول ، ونجحت في إقامة قاعدة عسكرية لها في الظهران ، و في اليمن كانت أسرة "حميد الدين" تمارس آخر طقوس الحكم الإلهي ، وقد نصب الملوك أنفسهم أئمة ، ليتوقف بها التاريخ عند القرون الوسطى، وفي الخليج وعُمان كان الشيوخ والأمراء يحكمون بمنطق القبيلة ، ليظهر الشيخ "شخبوط" ومن هم على شاكلته يتحكمون بمصائر الشعوب ، ولا يخدمون سوى مصالح الاستعمار ، في حين كان المغرب العربي واقعًا تحت سيطرة الاستعمار الفرنسي الذي حاول القضاء على الهوية العربية للشعوب المغاربية ، وكانت نكبة فلسطين 1948م تجسيدا حقيقيًا لما يعيشه الواقع العربي من تدهور وانهيار ، لتفقد معه العروش المستبدة شرعيتها ، وقد غدا ملوكها كملوك الشطرنج يحركهم الاستعمار الغربي كيفما شاء.
وفي لحظة تاريخية حاسمة قامت ثورة يوليو المصرية فوق أشلاء نظام ملكي متهاوٍ ، لتهب رياح التغيير ، وتشتعل جذوة القومية العربية الخامدة ، من واقع آلام الشعب العربي ورغبته في الخلاص ، لتمضي المنطقة العربية في سياق ثورات التحرر الوطني العارمة ، والتي كانت في مرحلة مخاض ثوري عارم اكتنف العالم من كوبا إلى فيتنام ، فهبت شعوب المنطقة لتطيح بنظمها التابعة لتبدأ حالة من المد الثوري الوطني التي لا يستطيع أحدُ الوقوف في طريقها.
ومنذ البداية كانت المواجهة مع الاستعمار الغربي لا مناص منها ، وكان النزاع مع العدو الصهيوني مسلمة تاريخية لا مفر من حصولها ، فظهر "جمال عبد الناصر" بمشروعه القومي العروبي لتجد الولايات المتحدة نفسها أمام خصم قوى حرمها من وضع مشروعاتها الاستعمارية موضع التنفيذ ، فحاصر "حلف بغداد" على الصعيد العربي قبل أن يشارك في إشعال حرب استقلال تاريخية في الجزائر 1954م، وأحبط "مشروع ايزنهاور" ، بعد أن خرج منتصرًا من حرب السويس 1956م ، وحينما كانت الخطط تجري على قدم وساق في "حلف بغداد" لالتهام سوريا ، فوجئ الجميع بقيام الوحدة بين مصر وسوريا ، لتظهر لأول مرة منذ عصر "محمد على" دولة واحدة تضم مصر وأكبر بلدان الشام ، وحين سقط الحلم الوحدوي نتيجة لأخطاء إدارية وداخلية لم يكن ذلك يعنى أن "عبد الناصر" قد سقط ، أو تنازل عن حلمه القومي ، فظهر من جديد في اليمن يخوض حربًا فرضتها مقتضيات المشروع القومي ، ويقف وجهًا لوجه أمام النظم العربية الكلاسيكية الموالية للغرب ، لينجح في حماية الجمهورية الوليدة من السقوط ، وهنا تلاقت الأطماع الاستعمارية الصهيونية مع رغبة أمريكية جارفة في التخلص من "جمال عبد الناصر" الذي شبهه الرئيس "جونسون" بـ"الديك الرومي" الذي يمشي مختالاً في الشرق الأوسط ، فكانت مؤامرة يونيو 1967م ، وكانت الهزيمة الكارثة التي توقع الجميع بعدها أنه لن تقوم قائمة للمشروع القومي وزعيمه "عبد الناصر" .
ومن جديد خرج "عبد الناصر" من الأزمة أكثر إصرارًا على المواجهة ، فكانت مرحة بناء الجيش المنهار ثم مرحلة المواجهة لتبدأ واحدة من أشرس وأنبل معارك التاريخ الحديث ألا وهى حرب الاستنزاف ، وليثبت الجيش المصري أنه لم ينكسر وأنه موجود، وأن الهزيمة حدث عارض في تاريخ الشعوب والأمم ، وهى الحرب التي مهدت لانتصار أكتوبر المجيد عام 1973م.
كانت الإرادة التي لم تنكسر من أبرز علامات تلك الفترة رغم الهزيمة ، وكانت النزاعات العربية الداخلية أكثر سلبًا من الصراعات الخارجية ، فالدماء العربية التي أريقت في حرب اليمن وأحداث أيلول الأسود كانت تفوق ما أهدر من دماء في الصراع العربي الصهيوني منذ النكبة وحتى حرب الاستنزاف .
ومع التسليم بوجود أخطاء تجلت بوضوح في أحداث :الانقلاب السوري والتورط المباشر في حرب اليمن وهزيمة يونيو 1967م ، إلا أن ذلك ليس مبررًا لكي نهيل التراب على فترة تاريخية صنعت الكثير ، ظهر خلالها المشروع القومي ، وتجلت استقلالية القرار ، والقدرة على المواجهة والصمود حتى مع الهزيمة ، كما ظهرت جوانب الوحدة بين الشعوب العربية ، وإن لم تقم بين الحكومات بنفس القوة ، حيث التفّت الشعوب العربية على هدف واحد لأول مرة في تاريخها ، ووضعت إسرائيل تحت ضغط دائم ومقاطعة مذلة ، ولأول مرة تذوب الفوارق والحدود ، فهاهو "عبد الناصر" ومن حوله الجموع الهادرة من قصر الضيافة في دمشق إلى ميدان بورسعيد في الجزائر ومن صنعاء إلى الخرطوم ، و لأول مرة تذهب الجيوش العربية حتى وان كانت رمزية من العراق إلى الأردن لحمايته ومن الجزائر والمغرب والسودان وغيرها إلى خطوط المواجهة ، كان الهدف واضحًا والسعي إليه قائما ، لولا عوامل داخلية وخارجية أعاقته مع فقدان الإرادة لدي البعض ، والخوف على المصالح الشخصية لدى البعض الآخر، وليس أدل من موقف الرئيس الجزائري "هوارى موبدين" حين طار إلى موسكو بعد هزيمة يونيو 1967م مباشرة ، حاملا "شيكات على بياض" ليشتري السلاح للجيش المصري ، وليس أدل من مظاهرات الخرطوم التي كادت أن تشتعل لو لم يتراجع عبد الناصر عن قراره بالتنحي ، فأين ذلك كله من صورة الشارع العربي عشية سقوط بغداد ....... لا شيء سوى عيون ذاهلة ، ونفوس يائسة ، لا تقوى حتى على الاعتراض .
إن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تروج له الإدارة الأمريكية، يهدف إلى طمس هوية الأمة العربية وحضارتها وتاريخها ومستقبلها، ولا يختلف بأي حال عن مشروع ايزنهاور ، وإن استبدل الفراغ الاستعماري ، بالفراغ السياسي والحديث عن الإصلاح في هذه المنطقة وهو إصلاح على الطريقة الأمريكية يسعى إلى فرض الهيمنة عليها ، واعتبار الصراع العربي الإسرائيلي من موروثات الماضي ، والسعي إلى دمج إسرائيل في المنطقة عبر مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات السياسية التي تجبر أي طرف عربي على التعاون والتطبيع مع إسرائيل للحصول على امتيازات تجارية واقتصادية من الولايات المتحدة ، ليتحول مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى وسيلة ابتزاز للأنظمة العربية ، وفي ظل هذا كله تضيع معالم القضية ، وتبدأ إعادة صياغة الحالة السياسية في المنطقة العربية، في ضوء المصالح الأمريكية ، ومتطلبات الأمن الإسرائيلي خارج إطار المشروع القومي العربي الذي بات هو الآخر من موروثات الماضي .
من كل ما سبق جاءت أهمية تلك الدراسة لاستيعاب متغيرات السياسة الأمريكية وثوابتها أيضا ، ويمكن للباحث بعدها إدراك أبعاد المخطط الأمريكي في العراق والشرق الأوسط ، وما يمكن أن يصيب المنطقة من أخطار ناجمة عن إدراجها في إطار المشروع الإمبريالي الأمريكي الجديد ، فقراءة الماضي تُضىء الحاضر وتبرز جوانب ربما تغاضي عنها البعض وتناساها البعض الآخر منذ "كامب ديفيد" وحتى سقوط بغداد .