رغم كل ما كانَ يملكه من إمكانياتٍ , عجزَ عن الوصولِ إليها , لدرجة أحس معها باليأس والحزن , فشعرَ بالفقرِ رغم غناه الفاحش , فانطوى على نفسه اكتئاباً , فشمتَ به الكثيرُ من الناسِ , والقليلُ منهم عبرَ لهُ عن مواساتهِ , وكان أخلصهم له مستشارهُ القانوني , وزميلُ دربهِ , وعالم دقائقُ قصته مع تلكَ المرأةِ من ألفها إلى يائها , فوقفَ إلى جوارهِ يخففُ عنه ويواسيه في محنةِ البحثِ عن محبوبةِ الصِبا والشباب , التي تركها ظلماً وعدواناً دون جريرة منها , فلمعت في ذهنهِ فكرةٌ أجالها في عقلهِ فهزَ رأسهُ إعجاباً بها , فدخل عليه في خلوتهِ وخاطبهُ بثقةٍ كبيرةٍ قائلاً :
- وجدتُ لمعضلتكَ حلاً
- قل
- ما عليك إلا أن تموت ...
فزَ من مكانهِ كمن لدغته عقرباً , ثم تراخى في مقعدهِ , وابتسم بمرارةٍ شديدةٍ فضحت هزاله , وأطرقَ إلى الأرضِ والدموعُ تكادُ تطفر من عينيهِ , فقالَ :
- هذا بالضبطِ ما قالته قارئةَ الفنجانِ يوماً من الأيام ...
- وماذا قالت لك ؟
- قالت لي : "لن تجدها حتى تموت" ...
- كذبَ المنجمونَ ولو صدقوا ...
- فلا أدري ماذا تقصدُ بقولها , "لن تجدها حتى تموت" , أحتى أموتُ أنا أم تموتَ هي ؟
- أوَ تصدقُ تلك الخزعبلات , إنما قصدتُ أنا ادعاءَ الموتِ
سكتا لحظاتٍ ثم قال المستشار فجأةً :
- وجدتها , لتمت إذن ...
ثم استدركَ موضحاً على عجل :
أقصدُ ندّعي موتكَ , وهذا يوافق ما ادعته قارئةَ الفنجان في نبوءتها
صمتَ لثوانٍ كي يرى ردةَ فعلهِ على اقتراحه , ثم أكملَ قائلاً :
- ... فكرةً مجنونةًٌ لكنها مضمونة
- أليس كذلك ؟ قال مستشاره له
التفتَ إليهِ وقال باقتضابٍ شديد :
- قل نسمع
- نصطاد أربعةُ عصافيرٍ بحجرٍ واحد ...
قاطعه وهو يعتدل في جلسته , وقد بدأ ت الفكرة تستفزه , وتجد آذناً صاغية , فقال بتهكمٍ :
- طيّر العصافيرَ الأربعة من فضلك
- الفكرة تحقق لك أربعةَ أشياء
أولها تثبت لكَ أنها على قيد الحياة..
قاطعه بلهفةٍ قائلاً :
- والثانية ؟
- تثبت لك إنَّ كانت لا زالت تحبك أم لا ...
- والثالثة تجدها أمامك وبين يديك ...
قاطعه قائلاً :
- والرابعة نكون قد وفقنا بذلك ما ادعتهُ قارئةَ الفنجانِ وما نود ادعاءهُ
, نعم تسلسل منطقي أيها المستشار , أليس كذلك ؟ فمهما كانت الفكرة مجنونة , فما فعلتهُ بها في شبابي هو الجنون بعينة , ولن أسامحَ نفسي على ظلمي لها ما حييتُ , عجّل وقل ما هي فكرتك
- تسافر علناً , ثم تعود سراً , وتُغير شَكلك حتى لا يتعرف عليك أحداً , ثم تكتبُ إعلاناً في الصحفِ والمجلاتِ يخبرُ عن موتك ... قاطعه وهو يبتسم مزدرداً ريقهُ قائلاً :
- فكرة مجنونة حقاً
ثم أردف في شوقٍ لمعرفة باقي الفكرةَ فقالَ :
- أكمل ... أكمل ثم ماذا بعدُ ؟
- ... ويقام لك عزاءٌ , ويُبنى لك قبرٌ , ويكتبُ عليهِ اسمكَ وتاريخَ موتكَ ...
- إذن لنبدأ التنفيذ على بركة الله .
وعند عودته سقطت به طائرته بالفعل ومات في تلك الحادثة
بعد أيامٍ كانت تقفُ على القبرِ زائرةٌ تتشحُ بالسوادِ , والدموعُ تسحُ بخديها بصمتٍ
, فهمست بكلماتٍ قليلةٍ لكنها حزينة , اقتربَ منها المستشار ومدَ يدهُ مُعزّياً :
- عظَّمّ الله أجركِ سيدتي
- شكراً لك
- لعلكِ السيدةَ ذكرى
- نعم أنا هيَ
- أرجو المعذرةَ ...
وتناولَ من جيبهِ مظروفاً أبيضاً , وأخرج منهُ ورقةً وأكمل قائلاً :
- ... تفضلي , هذهِ وصيةُ حرب لك
ابتسمت في ألمٍ وهي تصدُ بكفها الوصية وقالت له :
- ... أرجو المعذرة , فلا أقبلُ تعويضاً , ولولا أني علمت بوفاته ما أتيتُ أبدا .
قصة "ذكرى حرب"
بقلم : أبو عبدالله
د. خليل انشاصي
غزة / فلسطين .