الغاية أمّ للوسيلة
عملية (الفجر) في الفلوجة اسم على مسمى، هو ذا فجر الدمار الرهيب، فجر الحقد الدفين، فجر العالم المتحضر اللئيم، فجر اللعنة جاءت على يد مجرمين من هناك ومن هنا، من العدو ومن الصديق، من النفوس المخدرة المعطلة، من الخزي والعار والخذلان والتواطؤ والتبعية ومن الذل و(الوطاوة)، كلها تجسدت في ردود الأفعال الصريحة حينا من دون طائل والخرساء حينا آخر، وهل المقاومة إلا ردة فعل طبيعية تفرزها ظروف الاحتلال من صروف الإذلال والقهر والمظاهر العسكرية المهيمنة على الساحة بأكملها، وهل من يريد انتخابات حرة يفرش الدرب بالرياحين المدمرة والأزهار الدموية ثم التنكيل بشعبه، وكيف من يريد الحرية أن يقبل باحتلال هدام أولا ثم يرضى بقواعد عسكرية يتم التأسيس لها على المدى الطويل، وهل هناك من يفضل الدكتاتورية على حرية مغموسة بالإذلال منقوصة السيادة وبالأخص الاحتلال العسكري الذي يدمر كل من يقف في طريقة ومن يأتي في طريقه، ومن لم يعرف ويفهم طبيعة البشر في جميع الأماكن وعلى جميع الأزمان فهو إما كذاب محترف متعجرف أو جاهل أرعن، والزمن لا يغفر لا هذا ولا ذاك.
أعمى الخوف على المصالح القلوب وزج بالمبادئ أسفل سافلين وأعمل في الضمائر حتى سال منها القيح على زمن لا يجتره أحد إلا غص فيه وشهق، فلم تسمع إلا صوت القوي وصوت من له صفة رسمية مهما كانت توجهاته إجرامية أو إرهابية، وهناك ناطق رسمي باسم المحتل عداك عن المحتل ذاته فمن هو الناطق الرسمي باسم الشعب سوى المقاومة التي لم ولن تجد من يتبناها لا على المستوى الرسمي ولا في الخفاء ولا في الإعلام إلا هذا الشعب الصامد الصبور، وصوت الشارع في النهاية يطغى. ولم تحظ الأمور الإنسانية بتغطية من وسائل الإعلام ونسمع بأن الحكومة المؤقتة صرحت وأن قوات الاحتلال أدلت بتصريح فأين هو صوت شعب العراق عدا عن لقاء خجول هنا وهناك. وإنه لمن المؤسف أن نرى أن الآلة العسكرية الأمريكية والجنود الذين يجب أن يحموا الديمقراطية والحرية حسب المزاعم الكبيرة والكثيرة هم نفسهم يهتكون عرض الزمان بالقصف وبتدمير المساكن فوق ساكنيها من جراء خبر من غير يقين أو شك قد لا يكون في مكانه، فما هذه الايديولوجية البشعة التي حسبها الناس أنها رحلت بعيدا واضمحلت مع مرور الزمن على هيروشيما وعلى فيتنام.
حينما خرج قاسم داوود يعلن انتهاء عملية (الفجر) والتي أطلقتها الحكومة العراقية المؤقتة المعينة من قبل الاحتلال، أثبت وبجدارة التواطؤ الدموي الرهيب الذي لم يكن خافيا بين الحكومة المؤقتة بقيادة علاوي وبين قوات الاحتلال الحاكمة فعليا.
حينما خرج داوود معلنا انتهاء العملية أثبت أن الغاية أمّ للوسيلة تأمرها وتبررها ثم تتعهدها بالرعاية تحت جنح ذرائع تؤدي إلى الدماء البريئة والدمار البشع، ثم أثبت أن من جاؤوا مع هذا الاحتلال أكثر دكتاتورية ودموية من الحقبة السالفة في أرض العراق، والشعب يرزح بين المطرقة والسندان يئن من وطأة النوائب ينتظر معجزة أن تتحقق لوصل أطراف المعادلة دون ثمن قد لا يقدر على دفعه.
حينما ظهر داوود في مؤتمر صحفي مصرحا بانتهاء العملية في الفلوجة والعرق يتصبب منه كأنما في ظهره فوهة بندقية تحثه على النطق بالكلام أو في قلبه حقد يؤثر على نطقه فلا يخرح منه إلا كشيطان تمرح في أرجائه أصداء احتلال غاشم.
حينما خرج داوود يعلن للعالم الفصل في الأمر بين القوات المهاجمة والمدافعين عن المدينة فقد أظهر للعيان أنه يمكن إرسال الصليب الأحمر وشاحنات الإغاثة للقلة المتبقية ممن لهم حق الحياة الكريمة، وهذا لعمري تبجح ولن ينساه التاريخ له فقد ذبح الضحية ومشى في جنازتها.
حينما خرج داوود معلنا النهاية للعملية في الفلوجة وقد بدا فخورا بتدمير مدينة وتشريد أهلها والتنكيل بمن فيها كان قد أعلن نجاح العملية، ولكن مع الأسف مات المريض من جراء نزيف في كرامة القادة المعينين من قبل الاحتلال، ومازالت المأساة تتجسد بأبشع صورها فوق الأرض وتحت الأنقاض وفي نفوس البريئين وفي جوع وروع الآمنين من البشر، وتراك ترى حجم الانفجارات حتى تراك تراهن على أن المقابل هو قوة عظمى أو أن المقابل محصن بحصون ضد الحرب النووية. ولعل هذه المشاهد من الإبادة والهدم تذكرنا بأحداث مخيم جنين في فلسطين في انتفاضة الأقصى المباركة عندما أضحت الغاية الصهيونية تبرر الوسيلة الإجرامية البشعة من قبل جيش الكيان الصهيوني الغاشم.
حينما خرج داوود على الملأ معلنا انتهاء العملية بمقتل أكثر من ألف شخص من المسلحين واعتقال أكثر من مائتين وأن الرقم في ازدياد لم يبق من الأمر شيئا حين تجاهل الأطفال والنساء وضرب بعرض الحائط الدمار المادي والمعنوي للعراق كله، وهذه القوات الغازية المحتلة تعيث فسادا في هذه المدينة، جاءت البلية من كل حدب وصوب وانتشرت المآسي في كل مكان، أطفال ونساء قضوا إما بالقصف الهمجي أو بالهدم العمد، قضوا في الشوارع ملتحفين السماء وتحت الأنقاض بلا معين أو منقذ، وأهلك المحتل الحرث والنسل، أناس أبرياء في مهب الريح، بشر تشردوا وتفرقوا إلى النهاية، أطفال ممن نجا يرقدون في المستشفيات من دون يد أو بعين وعين أو من دون حراك أو بجلد محترق مهترئ، وقد ظهرت علينا بل تسربت إلينا كمشاهدين عبر أحد وسائل الإعلام بعض المشاهد الخجولة من ضحايا الفلوجة من الأطفال والنساء، وهذا طفل يفقد طرفيه وقد تم إسعاف روحه دون كامل جسده وهو ينظر إلى آلة التصوير بعيون واسعة ملؤها الهدوء والبراءة، فتدمع له العيون سحا وتتفطر الأكباد كمدا وحسرة من المشهد، وغيره كثير.
أما عن التعتيم الإعلامي المطبق فلا مرد لقائل بأن النفوس تلهفت للخبر، وهو ذا خبر الطامة حينما نرى قصاصات من الحقيقة تعرض هنا وهناك لتجميل مظهر حرية الإعلام لا غير، وإنها لمأساة حقيقية وإبادة جماعية على مرأى ومسمع من العالم تحت أنظار البشر ولا من مجيب أو مغيث أو مستنكر.
ثمن الحرية غال أحيانا ولا مرد له ولكن عندما يكون الإنسان قد اختاره ، أما أن يُفرض عليه ويملى على إرادته إملاء مرّاً ثم يُخدع بالأماني المعسولة فهذا هو لب المأساة ونقيض المرام، فهذا الشعب الآمن يأتيه رزقه رغدا يُنبش عن بكرة أبيه تحت ذرائع تحقيق غايات المحتل مهما كان الثمن، يا للهول ويا للمصيبة التي أصابت الأمة كلها وهذا هو درس يسجله التاريخ ووصمة عار على كل من يدعي الحيرة ونكسة للأحرار في العالم ما بعدها نكسة، هو ذا الصمت وهو ذا السكوت وهو ذا التبلد والقيامة تقوم لما دون ذلك بكثير في أماكن أخرى من هذه الأرض.
يقولون احتل الإرهابيون المدينة وعلينا أن نطهر لكم مدينتكم منهم وبالمناسبة يجب أن نهدم المدينة وننكل بكم أيضا، هل لتنعموا بالحرية أم لتكونوا عبرة لكل مدينة أخرى تختار نهج مقاومة الاحتلال وهذه الحكومة العميلة. النفوس تغلي والدماء تفور ولا يقول قائل أن الأمر يحتاج إلى وقت وعلينا انتظار الأيام بما ستأتي به من الأحداث. ماذا نريد أكثر من هذا لنندد ونشجب، أما السكوت فهو جريمة ما بعدها جريمة وذلك على المستوى الإنساني فما أدراك بالمستوى الأخوي في العروبة والعقيدة.
أخيرا، لنضع جانبا المظهر الباهت والشكل الجاف الديكتاتوري والهيئة المخابراتية العفنة والأسلوب الوقح والعنجهية الوضيعة، ونذهب إلى ما نرى على أنه حقيقة في هذا المؤتمر الصحفي الخبيث لرجل الأمن الأول في السلطة المعينة من قبل الاحتلال، وكأن الدنيا قامت ولم تقعد وقد انتهت أساليب التعامل الإنساني إلى آخر المطاف المتطرف من الدمار والتهلكة.