قصتي مع البحر قصة ..إن كانت كل أنواع السفن تبحر به ذهابا وإيابا روحي تبحر به مكوثا سرمديا ..للبحر صورة مصغرة منعكسة على عيوني ويفيض منسوبها من أجفاني, معلقة على حائط الطفولة والكهولة ,, أغمض جفنيَ عليها وأنا أغفو الى آخر الوسن وأفتحهما عندما تلاطف رعشات قلبي أمواجها ..صورة خالدة مهما تهتز الجدران وتبهت الألوان تتجدد دوريا ..
وكلما داعبت خيالي نسماته كانت تؤكد لي بأن اليابسة منتهاها في جوار البحر ..أولى عتبات الرمال ,, وكل الكلام منتهاه حزمة من الأمثال ...
قالوا الكثير عن البحر الصقوا به صفة الغدر ..
لكن البحر ليس غدارا ,, إنما هو نزوعي الفطنة و حاذق لأبعد نقطة من نقاط الذكاء التي لا تخضع للمعايير النسبية وأدواته الإيحائية تفوق كل الادوات المادية ..
إنه ضيف على حيز فراغي ممتلئ بشتى الكائنات الحية وكل المكونات الجيولوجية والبيلولوجية تتعايش فيه ضمن نظام توافقي منسق
...
لكن رغم حبي الخرافي للبحر أفقت على جرعات الندم وطفقت أقشر زعانفي الذهبية وأنزع خياشيمي الفسفورية وحتى "جلد الصبر "الذي أستعرته من السلفحاة كي أقاوم به التعرية سلخته من هيكلي ....
تأكدت بأن كل الحروب كانت صادقة لأنها تهدف منذ البداية لإنتاج أكبر قدر من الرماد ليعيد تصنيع الأسلحة من تراكمات الرماد ذاته ..
كما تأكدت بالمقابل بأن "الحب" لحظة برق خاطفة تسقط من بؤرة الضوء ولن تصمد أمام الرؤية سوى ثواني ,, تصمد فقط في الإنطباع التخيلي للذاكرة , ويظل محرك الديزل في دورانه , إبتداءا من إحتكاك الحجر بالحجر ومرورا بأعواد الثقاب الى الطاقة النووية ..
مع إن الشمس تلغي صلاحية كل هذا عند ظهورها ولكن ذلك ضمن شروطها وليست ضمن شروطنا وهنا الفرق نريد مالا نستطيع الوصول اليه ولا نحسن توظيف ممتلكاتنا العشوائية كي نخضع لإرادتنا ما منحتنا الطبيعة بطرق اللا ارادية ..ما أسهل النظر الى المرآة وما أيسر الركض خلف الظل ..
لزج و منفلت ذلك المسمى "بالحب" .. كالماء والهواء والضوء لا تمسك به الأصابع يظل في قبضة الذاكرة وما يتبقى منه لا يعيد تصنيع ذاته عكس الأسلحة الفتاكة ولانه مولود آني أنبثق من فتيل الذبذبات الكهرومغناطسية بين شرايين السحب العالية حتى تستبقي السحب المجفلة تلك الومضات لتجتر صداه وسناه ..
أيها البحر ليس ذنبك بأن الصخرة ذات الأطراف المدببة جرحتني وأنزفت دمي لآخر قطرة ..أيتها الصخرة المدببة ليس ذنبك أن تغرسي نتوءاتك في مساماتي لأن الموج هو من قذفني على سطحك ..
أيتها الموجة العالية العاتية الآتية من هناك الذنب ليس ذنبك لان الرياح هي من تسيرك وتقودك الى أقدارك الأخيرة ..أيتها الريح ليس الذنب ذنبك لأنك مسيرة ومخيرة من القدر فقط البوصلة توجهك نحو مكانك المنذور ....
ظللت أبرر للجميع ....ما أصعب أن تبرر أفعال غيرك..ويحك يا قلب أحب ..
حتى تساوت المتناقضات ..فوق منصة المحكمة ولم تعدل المحكمة يوما ..لأن كفتي ميزان العدالة لا يتساويان
أيها البحر عندما تركتُ وطني كنتَ آخر من ودعته بعد أمي وعندما أعود اليه أنت أول من تحضنه عيوني ...
حبيبي أيها الازرق يا صاحب السطح الزجاجي الأملس ..كنت تتسلى بدموعي الرقراقة كي تجمعها في أصدافك وبعد أن تهدأ سريرتي كنت تصالحني بقلادة مصنوعة من تلك الدرر ...
لكني تعبت تعبت أن أكون جوهرة وأنا أفتقد الى شمعة في ليلي الداكن تعبت من تراقص دموع الكبرياء وأنا أدعي اللا مبالاة ,, تعبت من هذه القوة الافريقية التي لم تساهم يوما في تطوير بلادي أيها البحر ما جدوى جمالك وأنا فقيرة وبلادي تحت التخلف والجهل وفي يدي عشاق الكراسي ......
أجزم إنك لست الغدار ولكنهم يحملوك ذنوب النوى وأنت أول من حافظ على الأمانة والدليل على ذلك انك لم تغرق ذا النون ..كما أنك صاحبت سندباد البحر وأرشدت ماجلان في رحلته ...
بل تساند القوارب الشراعية الهزيلة ولم تطلق كلابك (الحيتان الزرقاء ) في أثرها..لكن أعدك بكل ثرائك الغير المحدود وإمتدادك الممدود لن أذرف بعد اليوم "دمعة" هذا ليس رفضا ولكن لم يبق هناك دمع في عيني
....
أو أتدري يا حبيبي يا بحر بأن الياسبة المتقزمة التي يعيش عليها ثلة من اصحاب المصالح ومجموعة المعسكرات والعلب الفاسدة يشمتون الآن بي لأني قررت أن لا أنتج مزيدا من الدموع ,,لأن العين تتكون من ماء فقط كما اللسان ليس لها عظم ..
لم أتعب يوما من التأنق بوشاح زبد الموج على كتفي وهو يغازل القمر في علوه ولم أتعب من الإنحناء الى زهرة لأقطفها من بستان الروح وأهبها لمن يستحق..آثرت أن أحتفظ بما بقي من الدموع لعلي سأحتاجها عندما أكون بحاجة الى البكاء دون أن يجرحني المد و الجزر.