الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
إنَّ الرحمة في قلب الإنسان مؤشر على اتصاله بالله عز وجل ، فأبعدُ قلب عن الله عز وجل هو القلب القاسي . لذلك ورد في الحديث القدسي : إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ، الراحمون يرحمهم الله ، أبعد القلوب عن الله القلب القاسي ، فإذا كان للرحمة مؤشر ، وللإيمان مؤشر ، وللاتصال بالله مؤشر ، فهذه المؤشرات تتحرك معاً .يعني حجم إيمانك بحجم اتصالك بالله ، وبحجم رحمة الخلق في قلبك ، فلما يقسو قلبُ الإنسان على عبادِ الله ، يوقع فيهم الأذى . قال تعالى :{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين } (آل عمران 159) . ولو كان الإنسان فظاً غليظ القلب ، وإن كان متمكناً من علمه ، متبحراً في ثقافته ، لكنه فظٌ غليظ القلب ، فإنّ الناس يجفونه ، ويصدُّون عنه .فالنبي عليه الصلاة والسلام ، سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ، الموحى إليه ، المؤيد بالمعجزات ، لو كان فظًّا غليظ القلب مع كل ما اتصف به لانفض الناس من حوله ، فكيف إذًا بإنسان لا معجزة معه ، ولا وحي ، ولا هو معصوم ، ولا سيد الخلق ولا حبيب الحق ، بل هو واحد من عامة المؤمنين أو حتى من عامة المسلمين .
فإذا كان في دعوته قاسياً فظاً غليظاً هل تقبل دعوته ؟ إن المعنى في الآية دقيق ، يعني: أنت أيها النبي ، أنت على ما أنت عليه من تفوقٍ ، من عصمةٍ ، من تأييدٍ بالمعجزات ، من إكرامٍ بالوحي ، أنت بكل هذه الميزات ! ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك .
فكيف بالذي ليس متفوقاً ، وليس مؤيداً بالمعجزات ، ولا يوحى إليه ، ولا سيد الخلق ، ولا حبيب الحق ، فكيف تكون فظا غليظ القلب .يروى أنَ رجلاً دخل على بعض الخلفاء ، فقال : إنني سأعظك وأغلُظ عليك ، وكان هذا الخليفة فقيهاً ، فقال : ولِمَ الغلظة يا أخي ، لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو أشرُّ مني ؛ أرسل موسى وهارون إلى فرعون ، فقال : { فقولا له قولاً ليناً لعله يتزكى أو يخشى } . (سورة طه : 44 ) ؛ لذلك لن تستطيع فتح عقول الناس ، قبل أن تفتح قلوبهم بالإحسان ، لذلك قالوا : الإحسان قبل البيان ، فلا تستطيع أن تقنع الناس بالحق إلا إذا كنت على الحق ، والقدوة قبل الدعوة ، فلن تستطيع أن تكون مؤثراً بالآخرين إلا إذا كنت محسنًا إليهم ؛ فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام : "بعثت بمداراة الناس" هذه الباء في اللغة من معانيها الاستعانة ، يعني أنا أستعين على هدايتهم بمدارتهم . وقد يسأل سائل : ما الفرق بين المداراة والمداهنة ؟ ثمَّةَ فرقٌ كبير ، فما أبعد المداراة عن المداهنة .
المداراة بذل الدنيا من أجل الدين ، تنفق شيئًا من وقتك ، وخبرتك ، وراحتك ، ومن مالك في سبيل أن تؤلف قلب أخيك ، هذه مداراة ، ولكن المداهنة أن تنفق من دينك من أجل الدنيا ، { ودوا لو تدهن فيدهنون} ( سورة القلم : 9 )
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لف ثوبه حتى لا يزعج أحدًا ، للثوب عند المشي حفيف - فهل يعقل أن حفيف الثوب يوقظ الأهل ؟ - من شدة رقته ، ومن شدة رحمته ، وشدة عنايته بأهله ، فكان إذا دخل بيته لف ثوبه ، وكان إذا رأى صبياً سلَّم عليه ، وكان الحسن والحسين يركبان على ظهره في البيت فيقول : نعم الجمل جملكما ، ونعم الحملانِ أنتما ، لماذا وصل إلى ما وصل إليه ، بأخلاقه العالية : "وإنك لعلى خلق عظيم " (إنك لعلى) و(على) تفيد الاستعلاء ، فهو متمكن ، فمهما استُفِزَّ فلا شيء في الأرض يخرجه عن خلقه العظيم ، إنّه متمكن من خلقه .
فالمسلم يبحث عن رضا الله ومحبته، وتحقيق الخيرية في نفسه، ويكون من خير الناس أو خيرهم ، يقول الرسول [ : "خير الناس أحسنهم خلقا ً"، وهو يبحث عن الأجر العظيم الذي يحصل من الأخلاق الطيبة، والمسلم لا يكون حسن الخلق لكي يكسب مصلحة، إنما يفعل ذلك ليكسب رضا الله - سبحانه وتعالى-إن الله أمرنا بأن نلتزم الحكمة في التعامل مع الناس، وهذا عين العقل، يقول الله -عز وجل- { ادْعُ إلى سَبيلِ رَبكَ بالحِكْمةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلْهُم بالَّتي هيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عن سَبيلِهِ وَهُو أَعلمُ بالمُهْتَدينَ} (سورة النحل/125)، الموعظة الحسنة هي محتوى الكلام الذي يدعو إلى شيء طيب. ولكن ما هي الحكمة؟ الحكمة هي : الطريقة التي يعرض بها الإنسان ما عنده من أفكار ومن أحكام، وقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله بأنه كان لين الجانب، وهو إن لم يكن كذلك لخسر الناس ولا نفضوا من حوله وهم الصحابة وهو الرسول ، وكما أن للأخلاق الحسنة دوافع، فإن لها أيضاً ضوابط تضبطها، والضابط فيها يحدده الشرع، ولا نحدده نحن بعقولنا ولا من تلقاء أنفسنا.
عن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق قيل ما القلب المحموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسـد، قيل فمن على أثـرِه؟ قال: الذي يشنأ الدنيا و يحب الآخرة، قيل فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خـلق حسـن ". رواه ابن ماجة، وأورده السيوطي في الجامع الصغير . إنها كلمات ينبغي أن تكتب بماء الذهب ، ونور لا يخرج إلا من مشكاة النبوة إنها دعوة لإرشــاد النفس إلى طريق الخير دعوة امتزجت بكل الإخلاص بعيدة عن الهتافات والشعارات الجوفـاء التي خالطها الرياء فلم يبق فيها من الخير شيئًا ،
" خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق "إنه القلب الخالي من آفات وأمراض القلوب كالبغي والغل والحقد والحسد …فهو القلب السليم التقي النقي الذي لا يفلح ولا ينجو يوم القيامة إلا صاحبه قال تعالى { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } (الشعراء 88-89) ، فالخلق الحسن صفه سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين وهو شطر الدين وثمره مجاهـدة المتقين ورياضة المتعبدين ،ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أثقل شئ في الميزان الخلق الحسن " رواه ابن حبان وصححه الألباني. وقال صلى الله عليه وسلم :" إن أحبكم إلي وأقربكم منى في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلى وأبعدكم منّى في الآخرة أسوأكم أخلاقاً الثرثارون المتفيهقون المتشدقون " رواه أحمد والطبراني ، وقال صلى الله عليه وسلم :" إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة " رواه البزار ، وقال صلى الله عليه وسلم :"عليك بحسن الخلق وطول الصمت فوالذى نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما " رواه أبو يعلى في مسنده ، وقال صلى الله عليه وسلم : "من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار " رواه الحاكم .
اسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين وأن يلهمنا وإياكم رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم اجعل قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم واجعل عملنا خالصًا لوجهك الكريم .