لعلنا في أغلب أيام رمضان الكريم – أيها الأحباب نعيش مع كنز من كنوز العربية التي غفل عنها كثير من الأدباء بلـْهَ العامّة ، إنه كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينـَوري ، من أمهات الكتب ، فيه من الأدب والعلم والفكرما يصلح أن يكون مدرسة وحده ،قول في المحبة -3د: عثمان قدري مكانسي
ها نحن اليوم في الروضة الثالثة من هذا الكتاب ، نجول بين أزهار ( المحبة ) فنقتطف منها ما يُزّين مجالسنا ، ويضيء حياتنا .
- كتب رجل إلى صاحبه : أحِنّ إلى عهد أيامك التي حَسُنَتْ بك كأنها أعياد ، وقَصُرَتْ بك كأنها ساعات ، إن الشوق إليك يفوق الصفات ، ومما جدد الشوق إليك تصاقب الدار، ( قربها ) وقرب الجوار ، تمم الله لنا النعمة المتجددة فيك بالنظر إلى الغُرّة المباركة التي لا وحشة معها ولا أُنْسَ بعدها .
- وقال حكيم : ثلاث يُصْفين لك وُدّ أخيك : فالأولى : أن تبدأه بالسلام إذا لقِيتَه ، والثانية : أن توسع له في المجلس ، والثالثة : أن تدعوه بأحبّ أسمائه إليه .
- وقال الحكيم نفسُه : ثلاث يكرهك الناس لها : فالأولى : أن تعيب على الناس صفات هي فيك ، والثانية : أن ترى في الناس عيوباً هي فيك أكبر، لا تراها ، والثالثة : أن تؤذي جليسك فيما لا يَعنيك .
- وعن المقدام بن معدي كرِب – وكان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتدّ وقومُه عن الإسلام ، فقاتلهم المسلمون بقيادة خالد رضي الله عنه وأعادهم إلى الإسلام ، ومن كان مثله انتفـَتْ الصحبة عنه – قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا أحب أحدُكم أخاه فليُعـْلِمْه أنه يحبه " كي لا يكون الحب من طرف واحد ، ولتتآلف قلوب المسلمين .
- وكان يُقال : لا يكن حبُّك كَـَلََفاً ولا بغضُك تـَلَفاً (لا تسرف في حبك وبغضك ) . ونحوه قول الحسن البصري رحمه الله تعالى : أحِبّوا هَوْناً ، فإن أقواماً أفرطوا في حب قوم فهلكوا . ومثل ذلك أُثِر عن الشافعي رحمه الله تعالى : أحْبِبْ حبيبَك هَوناً ما عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوناً ما عسى أن يكون حبيبَك يوماً ما .
- أما الصحابي الجليل " عُكّاشة بن محصن" الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قضيباً يحارب به حين انكسر سيفه ، فلما هزّ القضيب انقلب بإذن الله سيفاً أبيضَ طويلاً حارب به في كل غزواته إلى أن قُتل في معركة الردّة في بني أسد ، قتله طليحة الأسدي المتنبئ ، ثم عاد طليحةُ إلى الأسلام وحَسُن إسلامُه - هذا الصحابي الجليل بشره النبي صلى صلى الله عليه وسلم بأنه ممن يدخل الجنة دون حساب ولا عقاب – كان عمر رضي الله عنه يحب عُكّاشة كثيراً ، فلما التقى عمر الفاروق بقاتله قال له : قتَلْتَ عكّاشة بن محصن؟! لا يُحبك قلبي . فقال طليحة : فمعاشرة جميلة - يا أمير المؤمنين – فإن الناس يتعاشرون على البغضاء.
وقال بعضهم لرجل : إني أُبغضك . فقال : إنما يجزع مِن فقد الحبّ المرأةُ ، ولكنْ عدلٌ
وإنصافٌ .
- وقال عمر رضي الله عنه لرجل يريد طلاق زوجته : لِمَ تطلّقها ؟ قال : لا أحبها . قال : أَوَ كلُّ البيوت بنيت على الحب ؟! فأين الرعاية والتذمم (أن لا يقوم بعمل يذمه الناس عليه ) .
- وكتب أحدهُم إلى صاحبه يبثّه شوقَه : لساني رطب بذكرك ، ومكانُك في قلبي معمور بمحبتك . ومثل قوله أنشد الشاعر معقِل :
لَعَمري لَئِن قرّتْ بقربك أعيُنٌ = لقد سَخِنَت بالبين منك عيونٌ
فسِرْ وأقِمْ ، وقْفٌ عليك موّتي = مكانُك في قلبي عليك مصونٌ
وذكر أعرابيّ رجلاً ، فقال : والله لكأن القلوب والألسن رِيضَتْ له ، فما تُعقَد إلا على
وُدّه ولا تنطق إلا بحمده .
- وقال رجل لابن حوشب : إني أحبّك . فقال : ولِمَ لا تحبّني ؛ وأنا أخوك في كتاب الله ووزيرك على دين الله ، ومُؤنتي على غيرك ! ولعل الإنسان – لشحّه – يمل من سؤال الناس ويستثقل صحبتهم . فنبه ابن حوشب صاحبه أن الحب قد يضعف ، بل يضمحلّ إذا كان فيه طلب المال والمؤنة .
- وينسب إلى رابعة العدوية – وهو بعيد - قولُها في الحب الإلهي :
أحبـّك حبـّيـْن ، لي واحدٌ = وحـُب ، لأنـّك أهـْل لـذاكَــا
فأمـا الذي أنت أهـْل لـه = فَحُسنٌ فَضَلْتَ به مَن سواكـا
وأما الذي في ضمير الحشا = فلستُ ارى الحُسنَ حتى أراكا
وليس ليَ المنّ في واحد = ولكنْ لك المنّ في ذا وذاكا
- ومن أحبّ ، فأمعن في الحب لم يرَ من حبيبه إلا المحاسن ، ألم يقل المسيب بن عَلَس :
وعين السُخط تُبصر كل عيب = وعين أخي الرضا عن ذاك تُعمي
ومثله لعبد الله بن معاوية :
فلـستُ بـِراءٍ عيبَ ذي الودّ كلـَّه = ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضياً
وعين الرضا عن كل عيب كَلِيلَةٌ = ولكنّ عين السخط تُبدي المساويا
ومن هذا الباب قال اليزيديّ : رأيت الخليل بن أحمد قاعداً على طنفُسة ، فأوسع لي ،
فكرهت التضييق عليه ، فقال : إنه لا يَضيق سَمّ الخياط على متحابّيْن ، ولا تسع
الدنيا متباغضَين
- وقال شريح القاضي لزوجته يوضح لها ما ينبغي أن تفعله لتحافظ على حبّه :
خُذي العفوَ مني تستديمي مودّتي = ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ
فإني رأيتُ الحب في الصدر والأذى = إذا اجتمعـا لم يلبـَثِ الحـُبُّ يـذهـبُ
- وقال أعرابيّ : إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقتِ الألسُن بالفروع ، ولا يظهر الودّ السليم إلا من القلب السليم . وعلى هذا قال أبو زبيد للوليد بن عُقبة :
مَن يَخُنْك الصفاءَ أو يتبَدّلْ = أو يَزُل مثلما تزول الظلالُ
فاعْلَمَنْ أني أخوك أخو العهــــــد حياتي حتى تزولَ الجبالُ
ليس بخلٌ عليك منّي بمالٍ = أبداً ما استقـَلّ سـيفاً حِمالٌ
فلك النصرُ باللسـان وبالــــــــــــكفّ إذا كان لليدين مصالٌ
كل شيء يحتال في الرجال = غيرَ أنْ ليس للمنايا احتيالٌ
- وقال عبد الله بن الزبير ذات يوم : والله لودِدْتُ أنّ لي بكل عشَرَة من أهل العراق رجلاً من أهل الشام ( صَرْفَ الدينار بالدرهم ) . فقال أحد العراقيين : مَثَلُنا ومَثَلُك كما قال الأعشى :
عُلّقتُها عَرَضاً وعُلّقَتْ رجلاً = غيري وعُلّق أخرى غيرَها الرجلُ
أحبّك أهلُ العراق ، وأحبَبْتَ أهل الشام ، وأحب أهلُ الشام عبدَ الملك بن مروان .
- وكتب رجل إلى صديق له : الله يعلم أني أحبك لنفسك فوق محبتي إياك لنفسي ، ولو أني خُيّرْتُ بين أمرين ؛ أحدُهما لي عليك والآخرلك عليّ لآثرتُ المروءة وحُسْنِ الأُحدوثة بإيثار حظك على حظّي ، وإني أحب وأُبغض لك ، وأوالي وأعادي فيك .