أيها الإخوة الكرام :
إنّ صلاة التراويح صلاة عظيم مباركة ، سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحيتها الأمة من بعده ، وهي من قيام الليل ، وقيام الليل أفضل صلاة بعد الفريضة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو دأب الصالحين وسرّ المتقين ، الذين تجافَت جُنوبُهم عن المضاجع يدعون الله تعالى خوفاً وطمعاً ، يرجون رحمته ويخافون عذابه .
هل سمعتم بفضل قيام الليل وعِظَم أهله وما ورد لهم من أجور عظيمة وهبات جسيمة ، استمعوا إلى ما يقول الله تعالى في أهله تعظيماً لهم وتنويهاً بشأنهم : ﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات : 17 - 18] .
بقيام الليل تطهر قلوبنا وتغمرنا السعادة وتكسونا البهجة .عن أبي أُمامةَ الباهلي ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقُربة إلى ربِّكم ومكفرةٌ للسيئات ومَنهاةٌ عن الإثم) رواه الترمذي وابن خزيمة( ).
لعلّك يا قائم الليل تحظَى بحلاوة لا يجدها غيرك فتقوم ليلة فتصيب رحمةً أو تنال بركةً ، أو توافق ساعة مباركة ، فيُجيب اللهُ دعاءك .
عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إنّ في الليلِ لَساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إيّاه وذلك كلّ ليلة) رواه مسلم .
قال النووي رحمه الله : "فيه إثبات ساعة الإجابة في كل ليلة ويتضمن الحثّ على الدعاء في جميع ساعات الليل رجاء مصادفتها".
أيها الصائمون :
إنكم في موسم عظيم مبارك ، يتأكد فيه الإيثار من الطاعات والتزوّد من القرُبات لا سيما قيام الليل ، وهو يصدق بصلاة التراويح مع المسلمين ، وقد وردّت بخصوصه أحاديث شريفة منها :
الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (مَنْ قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّمَ مِنْ ذنبه) (متفق عليه ).
وعند أصحاب السنن : "مَن قام ليلة مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"(الترمذى ).
أيها الأخيار :
إن سروركم وبهاءكم في قيام الليل في صلاة التراويح ، فحافظوا عليها ولا تضيعوها ، وقوموا بواجباتها ولا تهملوها ، واطمئنّوا فيها ولا تنقروها .
كم هو جميلٌ أن نُؤدّي التراويح جماعة خاشعين في أدائها ونتدبّر كتاب ربنا ونبكي عند سماعه ﴿ إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال : 2] .
أيها الأخيار :ما أعظم مواظبتكم على التراويح وخشوعكم فيها وتسابقكم إليها، إن لكم بها مغفرة ورحمة وحمداً وذكراً وشرفاً وأجراً .
إن صلاة التراويح مِن خير ما يعتني به المصلّون في هذا الشهر الكريم ، وإننا إذ نؤكد العناية بها ننبّه على أمور تتعلّق بها :
أولاً : عددها : والناس في عددها مختلفون اختلافاً كثيراً ، ما بين متشدد ومتساهل ، والواجب عند الاختلاف والتنازع الرجوع إلى الكتاب والسنة ، فهما الحكم على كل الآراء والاجتهادات قال تعالى : ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء : 59]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [الشورى : 10] .
فهل ورد في الكتاب أو السنة ما فيه صراحة تحديد التراويح أو على سبيل الإشارة ؟
نقول : ثبت في المتفق عليه من حديث عائشة وأخرجه البخاري في كتاب "التهجّد" باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة رضي الله عنها : كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ فقال : ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ( ) ، لكنها كما وصفتها عائشة : (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ، ثم يصلي ثلاثاً) .
فمن تيسرّ له القيام بما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذه الصفة فلا ريب أنه خير هديٍ وأحسنه وأكمله ، ولا ينبغي له العدول عن ذلك ، وهذا مسلك بعض الأئمة كمالك بن أنس ـ رحمه الله ـ كما في إحدى الروايات عنه ، فقد قال : "الذي جمعَ عليه الناسَ عمرُ بن الخطاب أحبّ إليَّ ، وهو إحدى عشرة ركعة ، وهي صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قيل له : إحدى عشرة ركعة بالوتر ؟ قال : نعم ، وثلاث عشرةَ قريب" قال : "ولا أدري من أين أُحدث هذا الركوع الكثير" ، وهذا ذكره السيوطي في رسالته في التراويح ، وقد وافق مالكاً على هذا الرأي أبو بكر بن العربي ـ رحمه الله ـ كما في شرحه لسنن الترمذي حيث قال : "والصحيح أن يصلي إحدى عشرة ركعة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وقيامه ، فأما غير ذلك من الأعداد فلا أصل له و لا حدّ فيه " ، وعلى هذا جرى عمل الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال فقد روى مالك والبيهقيّ بسند صحيح عن السائب بن يزيد أنه قال : "أمرّ عمرُ بن الخطاب أبيّ بن كعب وتميماً الدّاري أن يقوما بالناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصى عن طول القيام ، وما كنا ننصر إلا في فروع الفجر ، وفروع الفجر المراد به أوائله.
ورأى أكثر العلماء أن التراويح تطوّع مطلق ، وليس لها عدد محدود ، وأجازوا الزيادة على حديث عائشة ومآخذهم في ذلك مختلفة ، وعمل الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ ليس فيه التزام عدد معيّن ، فقد صح عنهم أنهم صلّوا إحدى عشرة ركعة ، وإحدى وعشرين ، وثلاثاً وعشرين ، فقد يعمد بعضهم إلى تطويل الصلاة وتحسينها ويقلل الركعات فيجعلها إحدى عشرة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وتارةً يزيدون في الركعات فيصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ويخفّفون القيام ، وزيادتهم تكون إدراكاً لبعض الفضيلة بسبب ما جرى من تخفيف القيام ، وصنيعهم هذا راجع إلى مراعاة أحوال الناس من ضعف وقوة ونشاط ، وهذا نهجٌ حسن ، يُفعل عند المصلحة والحاجة ، وأما التزام عدد معين وتقييد الناس به وادّعاء فضله والإجماع عليه فذلك إهمال لبعض النصوص ومجانبة لهدى السلّف ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "والجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال ، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها ، فحيث يطيل القراءة تقل الركعات وبالعكس ، وبذلك جزم الداوُديّ وغيره ، والاختلاف فيما زاد عن العشرين راجع إلى الاختلاف في الوتر ، وكأنه كان تارةً يوتر بواحدة ، وتارةً بثلاث"( فقة السنة سيد سابق) ، وإلى نحو هذا أشار ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى(مجموع الفتاوى كتاب قيام الليل ) ، وهذا هو التحقيق والفقه في المسألة وبه تأتلِف النصوص ، والله تعالى أعلم .
ثانياً : صفة صلاة التراويح : وصفتها كسائر الصلوات على المصلّين أن يأتوا بأركانها وواجباتها وسننها من أدعية وأذكار مع الطمأنينة والخشوع والتّؤُدّة وعدم العجَلة في ذلك كله ، وأما ما وقع في هذه الأعصار من تخفيف كثيرٍ من الأئمّة لصلاة التراويح بحجة ضعف الناس وأنها سنّة ، حتى إن صلاتهم لّتبدو هالكة بعيدة عن الهدي النبوي وطريقة السلف الصالح رضي الله عنهم ، فذاك كله خلاف الصواب والسنّة .