يَصعب حالياً الحديث عن أية تنمية بدون التطرق إلى قضية تعريب العلوم، فهي قضية ذات بعدٍ هام في أية تنمية اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية. لا شك أن في تراجع أنصار الوحدة ذوي المفهوم الوحدوي المثالي في زوال الحدود بين الدول العربية و غير ذلك من الطرح الخيالي حالياً، و تأثرهم بالأنموذج الأوروبي للوحدة بكونها وحدة في الهدف و المصيرتبقي على خصوصيات كل بلد، ما وجه صفعة قوية لتعريب العلوم و توحيد المصطلح المعرب.
في الحقيقة هي قضية قديمة حديثة تطفو إلى السطح كلما تحدث المتحدثون في كل ما يتعلق بالشؤون العلمية عند تناولها بمنظور عربي. لقد تراوح الموقف من هذه القضية بين مؤيد يراها ضرورة و معارض يراها ترفاً فكريا أو تخلفاًً. فأما المؤيد فيبرر رأيه بأن اللغة العربية لغة عظيمة لا تعجز عن استيعاب شتى أنواع العلوم الحديثة، بل ذهب إلى أنها قد تضيف إلى التراث العلمي العالمي من روحها و رونقها. أما المعارض فيرى أن لا ضرورة -حالياً على الأقل- لتعريب العلوم، فنحن في وقت تسارع فيه تطور العلوم تسارعاً مطرداً و يخشى أن يضيع الزمن هباءً في قضية خلافية كهذه، كما لا يخفي بعضهم رأيه في أن اللغة العربية لغة قاصرة عن أن تستوعب زخماً علمياً بهذه الضخامة، وأن اللغات الغربية -خاصةً الإنكليزية- قد تبوأت مكاناً عالمياً كلغة علمية على نطاق واسع. و لا شك أن منهم من ذهب أبعد من ذلك ليصرح، وبوضوح، أن التحضر يقتضي بالضرورة نبذ اللغات المتخلفة عن الركب و اتباع اللغات العلمية الغربيةالأم.
و من هذا و ذاك ننتقل لتصوير الواقع العربي العلمي الراهن. لا تزال معظم الدول العربية تعتمد لغات أجنبية كلغة تدريس أكاديمي كالفرنسية في دول المغرب العربي و الإنكليزية في البقية الباقية دون أن نغفل تجربتين رائدتين، تجربة دولة الكويت و الجمهورية العربية السورية. إن من الإجحاف أن نتطرق لموضوع كهذا دون أن نذكر هاتين التجربتين، فدولة الكويت نجحت من خلال بعض مؤسساتها الرائدة أن تعيد صياغة العلوم باللغة العربية، فأصدرت عدداً ضخماً من المطبوعات و الدوريات الناطقة بالضاد سواء بالتأليف أو الترجمة كمجلة العلوم و سلسلة عالم المعرفة و غير ذلك الكثير. كما نجحت سوريا في تدريس العلوم من طب و هندسة و علوم إنسانية في مؤسساتها الأكاديمية باللغة العربية و لها في ذلك باع طويل.
إن اللغة العربية لغة أصيلة و ليست مستحدثة. لقد كتب علماء العرب و الإسلام بالعربية، و صالوا و جالوا في زمن لم يكن فيه للغات الأخرى شأن يذكر، فكتبوا في الفلسفة و الفلك والطب و البصريات و الكيمياء و القانون و الاقتصاد، و أخذوا من اللغات الأخرى فاشتقوا و نحتوا و عرّبوا و أضافوا، حتى بت ترى أن كثيراً من الألفاظ العلمية التي أعدنا استيرادها اليوم ذات أصل عربي.
إن تعريب العلوم قضية وحدوية إذا شاءت هذه الأمة اليوم أن تسترد اعتبارها. لقد جوبهت محاولات التعريب الخجولة و بسبب اختلاف مريديها بِعثرة اختلاف المصطلح المعرب. فما يقال له "قصبات هوائية" في سوريا يقال له "شعب هوائية" في مصر، و على ذلك قِس. تخيل معي لو وصل بنا الحال إلى وضع معاجم لشرح المفردات بين أهل المغرب العربي و مشرقه، مثلاً، بدل توجيه الجهود لوضع معاجم عربية أجنبية حديثة موحدة.
ثم فلننظر إلى تجربة غيرنا من الأمم المتقدمة. هل منع مدُّ اللغة الإنكليزية كلغة علمية اليابانَ من التمسك باللغة اليابانية في مؤسساتها العلمية؟ إن ما يلفت نظر كل زائر لتلك الدولة مدى تمسك العالم الياباني بلغته دون أن يمنعه ذلك من تعلم اللغات الأجنبية و اتقانها. كذلك كان الحال مع الألمان، ما دفع معارضيهم من الأمريكيين إلى اتهامهم غبناً بالعنصرية.
هل تسمى اللغة التي بتنا نسمعها و نقرأها كل يوم لغة أنكليزية أو فرنسية؟ لا و الله. إنها لغة هجينة مستهجنة، فترى المتحدث "العالم" يرطن بكلمات من لغات متعددة. يذكر المصطلح بالفرنسية أو الإنكليزية و يكمل باقي الجملة بالعربية العامية مما يؤذي الأسماع و يثير الغثيان كمن يستمع لمعزوفة نشاز على يد عازف مبتدئ. لست بطبيعة الحال أعارض ذكر المصطلح الأجنبي و لكن بشرط أن يُلحق بالمصطلح العربي أو المعرب فوراً. بل إن في ذلك فائدة تنويرية و ثقافية هامة. و أضرب على ذلك مثلاً للإيضاح: " تُعرّف نقطة الكثب near point (النقطة القريبة) بأنها أقرب مسافة رؤية واضحة إلى العين". يمكن بهذه الطريقة تعريف القاريء بأي من المصطلحين في حال جهله أحدهما، و في ذلك شمول للفائدة.
إن أردنا أن نكون أمة مستهلكة فقط لنتاج الغير فعلينا التمسك بلغة الأجنبي، أما إن أردنا أن نضيف و نثري فعلينا تطويع لغتنا في شتى العلوم للحاق بالركب السريع للأمم المتقدمة. و لا نعني أبداً بهذا أن نعزف عن تعلم اللغات الأجنبية، بل على العكس. إن ما نطالب به يتطلب منا جهداً مضاعفاً في تعلم اللغات الأجنبية كي لا نعاني العزلة العلمية و كي نكون أقدر في جهودنا التعريبية.
ينطوي التعريب على بديهيتين غاية في الأهمية: أولاهما ضرورة توحيد الجهود و على كل المستويات بدءاً من المنزل و انتهاءً بالأمة. إن ما نراه من إقبال شديد على مدارس الأطفال الأجنبية في بعض دولنا و خاصةً من قبل الفئات الميسورة ما يؤذن بقرب فناء لغتنا في النشئ الجديد، أما المدارس التي تدرس اللغة العربية جنباً إلى جنب مع اللغة الأجنبية فألف مرحباً. البديهية الثانية هي ضرورة توحيد النتاج الكلي بالضرورة مما يجنبنا خطر تفرقنا و ضياع الجهود الفردية أدراج الرياح.
ليس ما نطالب به أمراً يسيراً و لكنه حتمي لأمة وعت مصالحها. إن سبب علو أصوات معارضي التعريب ناتج عن قصور جهودنا و ليس عن قوة حجتهم.
13/1/2004
د. محمد صنديد