السير في طريق النهضة
قلنا : إن النهضة لا يمكن أن توجد إلا بعد معرفة الإنسان معنى وجوده في الحياة، حتى يستطيع أن يكون مفاهيم صحيحة عنها أي حتى يعرف كيف ينظم علاقاته ويحدد سلوكه ويشبع جوعاته التي لابد وأن تكون مع غيره من الناس أو من الكائنات الحية الأخرى أو من الأشياء المادية التي يحتاجها فهو إنسان يعيش مع غيره من البشر ومع أمم أخرى من المخلوقات الأخرى على هذه الأرض في هذا الكون الشاسع فكيف يتعامل مع الناس أو مع الكائنات الحية الأخرى أو مع الأشياء لقضاء حاجاته أو إشباع رغباته إن لم يكن له وجهة نظر في هذه الحياة التي يحياها ومعرفة لهذه الحياة وموقعه منها .
ولهذا كان لا بد أن يسبق إجابته عن معنى وجوده في الحياة معرفة حقيقية لهذه الأشياء جميعها . أي أن تكون له فكرة أساسية عن الإنسان والكائنات الحية والكون ،أي لا بد أن تكون له فكرة أساسية شاملة عن هذه الأشياء جميعها .تكون هذه الفكرة الأساسية قاعدة لتفكيره ،ومنطلقاً لكل مفهوم عن هذه الحياة ومنظماً لكل سلوك أو علاقة .هذا إن أراد أن ينهض حقاً ويرتقي إلى المكانة التي كرمه الله بها .أي لمستوى إنسان فيرتفع بما حباه الله من عقل عن مكونات جسمه الحياتية أي التي شارك فيها غيره من الموجودات في التركيب العنصري أو المادي .أما إن أراد أن يخلد إلى الأرض ويلتصق بها ويعيش كما تعيش الكائنات الحية الأخرى كالأنعام مثلاً_ فاليصم أذنيه عما يسمع وليغمض أذنيه عما يرى وليتخل عن النعمة التي اختصه الله تعالى بها أي القلب لينطبق عليه قوله تعالى :{ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ،أولئك كالأنعام بل هم أضل }الأعراف(179) أو قوله تعالى :{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان وكان من الغاوين ، ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث }الأعراف(176).
ولهذا :كان على مريدي النهضة أن تكون لهم فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة وعما قبل الحياة الدنيا وعن علاقتها جميعها بما بعد الحياة الدنيا أي أن تكون لهم عقيدة عقلية تكون أساساً لتفكيرهم وتنبثق عنها كافة أنظمتهم وقوانينهم وتحدد لهم وجهة نظرهم في الحياة – أي تحدد لهم الأساس الذي يتصرفون بموجبه مع الناس والأشياء . هذا من جهة ومن جهة أخرى يجب أن تشمل هذه القاعدة الفكرية على الأسس التي تبين كيفية تنفيذ هذه النظم والقوانين ،كما يجب أن تحتوي هذه القاعدة الفكرية على الطريقة التي تبين كيفية إيجادها في واقع الحياة، وإيصالها للناس كافة وبعبارة مختصرة أن يكون لهم مبدأ ينقادون له ويقودونه ويقودون به غيرهم من البشر وهذا يقتضي أن يكونوا هم
70
بمجموعهم كأنهم المبدأ الحي الذي يسير في الناس فهم وثقافتهم وسلوكهم المرآة التي تنطبع عليها صورة المبدأ الذي يحملونه والفكرة التي يدعون لها . كما أن عليهم – وعملهم هو إنهاض الأمة ونقل المجتمع إلى الحالة الأفضل – أن يكونوا على معرفة بالواقع الذي يعملون فيه ، معرفة تمكنهم من وضع العلاج المناسب ، أو وصف العلاج المناسب لكل مسألة أو حادثة أو واقع من الأمراض الأساسية أو الجانبية التي تنخر جسم الأمة وتمزق المجتمع وتسمم أجواءه ولا يكفي أن تكون العقيدة وفهم أفكارها وأحكامها كل ما يعرفون أو يدعون إليه ولتفصيل ذلك نقول إن عليهم ما يلي :-
1- من المعروف أن حمل الدعوة الإسلامية فرض على كل مسلم فهي الرسالة المكلف بتبليغها ونشرها بين الناس (( لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت )). أو كما قال وفي رواية ((خير لك مما طلعت عليه الشمس )) رواه الطبراني عن ابن رافع. وقال تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ))النحل(125) . إلا أن المسألة ليست مسألة حمل دعوة وحسب بل هي مسألة حمل دعوة من أجل غاية معينة أي بناء أمة وإنهاضها على أساس معين وإقامة دولة تجعل الإسلام موجوداً في واقع الحياة ، وبعبارة أخرى هي مسألة توعية للمسلمين لتنفيذ حكم شرعي معطل ، وهو مبايعة الخليفة (( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية ))(1) أي أن يكون حمل الدعوة من أجل غاية معينة وتحقيق هذه الغاية لا يمكن أن يأتي بالعمل الفردي والوعظ والإرشاد . فلا بد أن يكون هذا العمل في كتلة واستبعاد العمل الفردي من أذهان الناس .وهذا معنى وجوده في هذه الحياة أي أنه يعيش من أجل ذلك من أجل أداء هذه الرسالة وتبليغها للناس وإيجادها في واقع الحياة .
2- فهم المبدأ بفكرته وطريقته وأعني بذلك أخذ العقيدة أخذاً عقلياً يقينياً ومبنياً على العقل وفهم ما انبثق عن العقيدة من أحكام ومعالجات ومعرفة الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى نشرها وتبليغها للناس . كما أعني فهم ما جاءت به هذه العقيدة وما انبثق عنها من أحكام تبين كيفية المحافظة على المبدأ نفسه وكيفية تنفيذ ما جاءت به من معالجات وأحكام . ومعرفة الكيفية المحددة لنشر المبدأ نفسه وهيمنته ونشره للناس كافة . أي بسط سلطان الإسلام – المبدأ – على الناس حتى يؤمنوا به .
3- معرفة الكيفية- الطريقة – التي يتمكن من إيجاد المبدأ في الحياة . من نقطة ابتداء الفكرة عند شخص أو أشخاص مروراً بإيجاد تكتل يقوم على الفكرة وبناء هذا التكتل بناء فكرياً – أي
71
تثقيف حملة هذا المبدأ وأعضاء هذا التكتل بثقافة محددة موحدة بحيث يصبح كل فرد فيه هو المبدأ نفسه هذا مع الاحتكاك بالناس ودعوتهم إليه وأخذ ثقتهم بالمبدأ وبحملة المبدأ-التفاعل- ووصولاً إلى إمكانية وضع هذه الأحكام والمعالجات موضع التنفيذ أي الحكم وبذلك يوجد المبدأ في واقع الحياة تماماً كما فعل رسول الله - صلى الله عليه و سلم - ; وهذا يقتضي التفريق بين كيفية إيصال المبدأ إلى الحياة أي إلى الحكم وبين كيفية تنفيذ أحكام المبدأ ونشره أي مباشرة الحكم بكافة أحكامه من محافظة على المبدأ أو تنفيذ للمعالجات ورعاية شؤون الناس إلى حمل هذا المبدأ للعالم بالجهاد .
وقد سار الرسول - صلى الله عليه و سلم - ; بالكيفية الأولى ابتداء من نزول الوحي إلى الهجرة وإقامة الدولة أي إلى إيجاد هذا المبدأ في واقع الحياة . ومن ثم قام بالجزء الثاني أي الجانب العملي من الطريقة فباشر تنفيذ أحكام هذا المبدأ فبنى بذلك أرقى مجتمع عرفه التاريخ وأقام نهضة لم يشهد العالم لها مثيلاً . وبذلك يجب أن تكون طريقة الرسول بجزأيها مع وضوح التفريق بينهما لوضع كل جزء في مكانه يجب أن تكون هي الطريقة التي تحمل بها الدعوة الآن .
4- وبالنظر في طريقة الرسول - صلى الله عليه و سلم - ; نجد أنه أوجد تكتلاً سياسياً يقوم على المبدأ أي على عقيدة واحدة وفكرة واحدة وقد كان ذلك واضحاً جلياً في كلمة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث يقول (( لا إسلام بلا جماعة ولا جماعة بلا إمارة ولا إمارة بلا طاعة )) وهذا نفي للعمل الفردي ومنافاة للإسلام حين العمل لتحقيق هدف معين فكيف إذا كان الهدف قد حدده المبدأ وطبيعة العمل تقتضي وجود جماعة بإمارة وليس المقصود أية جماعة بأية إمارة بل المقصود جماعة سياسية وإمارة سياسية كذلك أما كونها سياسية فذلك للأمور التالية :
أ- إن الغاية التي وجدت من أجلها هذه الكتلة والفرض الذي أوجب وجودها هو تغيير المجتمع ونقله إلى الوضع الأفضل -أي إنهاض المجتمع – ولما كان المجتمع مكوناً من جماعة من الناس لهم أعراف عامة ونظام ينظم شؤونهم إلا أن هذه الأعراف وهذا النظام دون المستوى اللائق والمراد هو رفعة شأن هؤلاء الناس فلا بد من رفعة شأن أعرافهم – وأفكارهم ومشاعرهم وتغيير النظام الفاسد الذي ينتظمهم-ووضع النظام الذي يصلح شأنهم ويتفق مع ما يحملونه من عقيدة وأفكار أي تغيير هذا الكيان السياسي الفاسد وما يقوم عليه من أفكار ومشاعر ونظام ووضع كيان سياسي صالح يحل محله . ولذلك لابد أن تكون هذه الكتلة التي تعمل للنهضة كياناً فكرياً سياسياً حتى تستطيع أن تحقق غايتها وتصل إلى هدفها . لأن فاقد الشيء لا يعطيه .
ب - أما الأعمال التي على الكتلة القيام بها في عملية التغيير هذه – النهضة - فهي جميعها أعمالاً سياسية فعملية تغيير الأعراف والتقاليد والأفكار التي تتحكم في علاقات الناس تتطلب تثقيف الناس
72
ثقافة سياسية تتناول جميع الأفكار والأحكام التي تريد أن تبني المجتمع على أساسها أي تتناول المسير للعلاقات الدائمة التي جعلت جماعة الناس مجتمعاً متميزاً سواء أكانت أفكار حكم أو اقتصاد أو اجتماع أو أمن أو تعليم أو غير ذلك انطلاقاً من قاعدتها الفكرية – العقيدة – وهذا يعني جعل العقيدة التي تعتقدها الأمة عقيدة سياسية تتناول كافة شؤونهم الحياتية وعلاقاتهم الداخلية وعلاقاتهم الخارجية .
ج - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لفساد العلاقات والنظم والقوانين التي تنتظم هذه العلاقات وهذا يعني التعرض للهيئة التنفيذية القائمة على تنفيذ هذه النظم والقوانين وتصدي الدولة لهذه الكتلة وأعضائها أمر حتمي وهذا هو الكفاح السياسي.
د - إن الكتلة وهي تعمل لإنهاض الأمة إنما تتعرض لما في المجتمع من أفكار مخالفة لها أولما في المجتمع من عادات وتقاليد أو مفاهيم أو كتل وأحزاب مخالفة لما هي عليه وهذا يعني الصراع الفكري بين الكتلة وغيرها من الناس من حملة مثل هذه الأفكار المغلوطة والآراء الفاسدة . وهذا كذلك عمل سياسي.
هـ - قوله - صلى الله عليه و سلم - ; ( من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم ))(2) ، أو قوله عليه الصلاة والسلام:
(( من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرمات الله ناكثاً لعهود الله حاكماً في عباد الله بغير ما أنزل الله ولم يغير عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مدخله ))(3) ، وعشرات الأحاديث التي توجب على المسلم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وهذا أيضاً عمل سياسي .
أو قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون }آل عمران(104) ، وعلى رأس الواجب إن أول من تأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر هم ولاة الأمور أي الحكام . وهذا كذلك قمة العمل السياسي .
هذه بعض موجبات أن تكون الكتلة العاملة لإنهاض المجتمع والأمة كتلة سياسية . وجميع أعمالها وأفكارها . أعمالاً وأفكاراً سياسية .
5- أن تقوم هذه الكتلة بتحديد فكرتها وأهدافها تحديداً يجلو عنها كل غموض ويزيل عنها كل إبهام بالإضافة إلى حرصها على صفاء فكرتها ونقائها وذلك بربط كل فكر أو حكم أو رأي لها بدليل من الكتاب أو السنة أو مما أرشدا إليه -الكتاب والسنة – من أدلة . بحيث تبدو للعيان أنها مستنبطة مما جاء به الوحي كما تحرص على نقائها بإبعاد كل فكر أو حكم أو رأي ليس منهما - الكتاب والسنة – فتزيل ما ألحق بها في العصر الهابط أو غيره من أحكام وآراء وأفكار وقواعد وعقائد لا تمت إليها بصلة . أو بصلة واهية هذا من حيث الصفاء والنقاء . وأما من حيث تحديد أهدافها وأفكارها وأحكامها وآرائها فلا بد لها أن تحدد كيفية تسيير أعمالها بموجبها