التجديد الوزني في البحر الخفيف
بحر له من اسمه أوفى نصيب، فهو من أجمل بحور الشعر العربي موسيقى، وأكثرها سلاسةً وخفّة. حتى ليُقال: إنه سُمّي بذلك لخفّته في الذوق.
ولعل أشهر قصائده القديمة هي معلقة (الحارث بن حلّزة اليشكري):
آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ منْهُ الثَّواءُ
وقد زادت شهرته مع الزمن،حتى طغى عند بعض الشعراء على معظم الأوزان الأخرى.
يقوم إيقاعه على التناغم الجميل بين التفعيلتين ( فاعلاتن) و(مستفعلن)، وبدائلهما الزحافية (فعِلاتن) و(متفعلن). بل إن (متفعلن) أكثر استعمالاً من الأصل، وأطيب وقعاً في الأذن والطبع، وقلما ترد (مستفعلن) في المجزوء منه خاصة.
قوالب البحر:
ليس للبحر الخفيف في العروض الخليلي سوى خمسة ضروب، تتجاذبها ثلاث أعاريض.
1. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
وهو الضرب أو الصورة التي أعطت البحر سمعته الإيقاعية الجميلة، وهو أكثرها شيوعاً واستخداماً، ولا داعي للتمثيل اختصاراً.
2. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلن
وهو ضرب نادر، عدّه المعري مهجوراً، وأنكره بعض المعاصرين، نمثّل له بمقطوعة نادرة لابن المعتز:
قلْ لغصْنِ البان الذي يتثنّى تحت بدر الدجى وفوقَ النّقا رمْتُ كتْمانَ ما بقلبي فنَمّتْ زفَراتٌ تُفْشي حديثَ الهوى ودموع تقولُ في الخدِّ يا مَنْ يتَباكى: كذا يكونُ البُكا ليسَ للناسِ موضِعٌ منْ فؤادي زادَ فيهِ هَواكِ حتّى امْتَلا
لكن هنالك قصائد قديمة على هذا القالب، التزم شعراؤها مجيء (فاعلن) على (فعِلن)، فحَسُنَ بذلك الإيقاع، وإن لم يَشع استخدامه.
يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
إنّما الناسُ ظاعِنٌ ومُقيمٌ فالذي بانَ للمُقيمِ عِظَهْ ومنَ الناسِ مَنْ يعيشُ شقيّاً جيفَةَ الليلِ، غافلَ اليَقَظَهْ فإذا كانَ ذا حَياءٍ ودينٍ راقَبَ الموتَ واتّقى الـحَفَظَهْ
3. فاعلاتن مستفعلن فاعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلن
وهو ضرب نادر أيضاً، لم أعثر له على قصيدة قديمة بعد، فأمثل له بقول عبد الرحمن صدقي:
ربّةَ الحسْنِ أنتِ وحْيُ الأدَبْ فابعثي الشعرَ ضارماً كاللهبْ لكِ عينانِ كالدراري سنًى ولِحاظٌ لها وميضُ الشهُبْ كلّ دنيايَ كلُّها ها هنا بين جفنيكِ، وهْي دنيا عجَبْ
وكما فعلوا بشقيقه السابق، فقد أكثر الشعراء من الكتابة عليه بالتزامهم الخبن؛ (فعِلن) في العروض والضرب، فأصبح الوزن راقصاً، خفيف الجرس. يقول صفي الدين الحلي:
زارَني والصباحُ قدْ سَفَرا وظَليمُ الظّلامِ قد نَفَرا وجيوشِ النجومِ جافِلةٌ ولِواءُ الشعاعِ قد نُشِرا جاءَ يهدي وِصالَهُ سَحَراً شادِنٌ للقلوبِ قد سَحَرا فتَيقّنْتُ أنهُ قَمَرٌ وكذا الليلُ يحملُ القَمَرا
4. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلن
إيقاع رائق معجب، عليه شعر كثير. نمثل له بقول ديك الجن:
أيها القلبُ لا تَعُدْ لِهَوى الغيدِ ثانِيَهْ ليسَ برْقٌ يكونُ أخْـ ـلَبَ منْ برْقِ غانِيَهْ خُنْتِ سِرّي ولم أخُنْـ ـكِ، فموتِي عَلانِيَهْ
5. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فعولن
قالب قليل الأمثلة، وإن كان إيقاعاً رائقاً.
يُلاحظ فيه أن عجزه يساوي: (فاعلن فاعلن فا)، فهو من مقصّرات المتدارك، ولذلك فإن الكتابةَ عليه دون الصدر تُخرجه من حظيرة الخفيف إلى حظيرة المتدارك.ونمثل له بقول البهاء زهير:
وثَقيلٍ كأنّما مَلَكُ الموتِ قُرْبُهْ ليس في الناسِ كلِّهمْ مَنْ تَراهُ يُحبُّهْ لو ذَكَرْتُ اسْمَهُ على الـ ـماءِ ما ساغَ شُرْبُهْ
ذلك هو إيقاع الخفيف في العروض الخليلي.
فهل التزم الشعراء عبر العصور هذه الضروب الخليلية؟
نقول: لقد أضاف الشعراء إلى إيقاع الخفيف عدداً كثيراً من الضروب، زاد عددها كثيراً عن ضروبه الخليلية الخمسة، لم تخرج في مجملها عن جوهر الخفيف، ولا عن روح إيقاعه.
وهو حقّ شرعيّ للشعراء في كل عصر، لأنهم سادة الإيقاع والوزن والشعر، وليس لأحد من العروضيين أن يحجر على إبداعاتهم كما يُثبت ذلك واقع الشعر.
وسأمثل هنا لبعضٍ من مبتدعات الشعراء الكثيرة في إيقاع الخفيف، دون ادّعاء الإحاطة هنا بكل ما جاؤوا به.
بزيادة حرفٍ ساكنٍ إلى الضرب (فاعلاتن).
1. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتاْنْ
وأمثلته عديدة، أقتصر منها على قول ابن زاكور:
جَبَلٌ جلّلَتْ ذُراهُ الرّياحِينْ متَّعَ اللهُ ساكنيهِ إلى حِينْ وحَماهمْ منْ كلِّ سوءٍ وأبْقا هُمْ كهوفاً يأوي إليها المساكينْ وقَفَتْ دونَهُ الشّوامِخُ إجْلا لاً لَهُ، إذْ لهُ وَقارُ السلاطينْ يمتلي قلبُ مَنْ يراهُ سروراً وتدلّي لهُ مُناهُ الأفانينْ
2. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فاعلانْ
بحذف نون (فاعلاتن) وإسكان ما قبلها.
وأمثلته ليست قليلة عندي، منها قول الششتري:
طابَ شرْبُ المُدامِ في الخَلَواتْ اِسْقِني يا نديمُ بالآنِياتْ خَمْرةٌ تَرْكُها علينا حرامٌ ليسَ فيها إثْمٌ ولا شُبُهاتْ آهِ يا ذا الفقيه لو ذُقْتَ منها وسمعْتَ الألحانَ في الخلَواتْ لَتَرَكْتَ الدّنيا، وما أنتَ فيهِ وتَعِشْ هائِماً ليومِ المماتْ
وربما التزم الشعراء (فعِْلانْ) بسكون العين وحركتها بدل (فاعلان).
3. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن فاعلاتن مستفعلن فعْلن
بسكون العين من الضرب (فعْلن).
وهو قالب لا يزال نادراً، أمثل له بإحدى ترجمات الشاعر عبد الرحمن شكري لإحدى رباعيات الخيام:
هاجَ للقلْبِ جِدَّةُ الحَوْلِ أشْجا ناً لديهِ قديمةُ العَهْدِ تأنَسُ النفسُ بالتفرُّدِ والخَلْـ ـوَةِ في ظلِّ حالةِ الرّغْدِ حيثُ تحكي الأزهارُ راحَةَ موسى في بياضِ النُّوّارِ والوَرْدِ ولَها نفحةٌ كأنفاسِ عيسى باعِثاتٍ لِلمَيْتِ منْ لَحْدِ
4. فاعلاتن مستفعلن فاعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
قالب نادر، وجدت عليه قول الشاعر ظافر الحداد:
جاءَنا بعدَ أكْلِنا (فُقّاعُ) قد أَجادَتْ إحْكامَهُ الصُّنّاعُ فكأنّ الكِيزانَ سودُ البَنَا نِ، ولكنْ عيدانُها الأقماعُ
5. فاعلاتن مستفعلن فاعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلان
قالب مستحدث آخر، وجدتُ له شاهده بقول الشيخ عبد الغني النابلسي:
غُصْنُ بانٍ عليهِ بدْرُ كَمالْ عطْفُهُ ينثني بِخمرِ دلالْ راحَ يرنو بمقلةٍ رشَقَتْ في قلوبِ المُتيّمينَ نِبالْ ورْدُ خدَّيْهِ يانِعٌ أبَداً عَرْفُهُ فائحٌ بغيرِ زَوالْ إنْ تَبَدّى أقول: بدْرُ دُجًى وإذا ما دَنَا أقولُ: غَزالْ
6. فاعلاتن مستفعلن فعِلن فاعلاتن مستفعلن فعِْلان
قالب جميل، يبدو أنه من اختراع الشاعر حسين بن عبد الصمد الحارثي (-984هـ)، بقوله:
فاحَ نَشْرُ الصَّبَا، وصاحَ الديكْ وانْثَنى البانُ يشتكي التّحْريكْ قمْ بِنا نَجْتَلِي مُشَعْشَعَةً تاهَ منْ وَجْدِهِ بِها النِّسِّيكْ إنْ تَسِرْ نحونا تُسَرَّ، وإنْ مِتَّ في السّيْرِ دوننا نُحْيِيكْ
وإن كان الشعراء قد استخدموا هذا الضرب (مشطوراً) قبل ذلك بكثير كما سنرى في المشطورات بعد قليل.
وقد عارضها ولده؛ البهاء العاملي، وعدد من الشعراء الآخرين في عصره وبعده.
7. فاعلاتن مستفعلن فعِلن فاعلاتن مستفعلن فعْلن
قالب مستخدم جميل رائق. قال الزنجاني: وقد بنى المحدثون لهذه العروض ضرباً آخر على (فعْلن).. كقوله:
قَرّ عيْنُ العُلا بإحْسانِكْ عَزَّ شأنُ العلومِ منْ شانِكْ يدّعي الدّهْرُ وهْوَ مُفْتَخِرٌ أنّهُ منْ عِدادِ غلْمانِكْ
8. فاعلاتن مستفعلاتن فاعلاتن مستفعلاتن
قالب عصري، وجدت عليه غير قصيدة.
يقول سليمان العيسى:
بالعصافيرِ بالزّنابِقْ زَيّنَتْ صدْرَها الحدائقْ ويَدُ اللهِ أنْشِأتْنا زينَةَ الكَوْنِ والخَلائِقْ كلُّ طفْلٍ رفيفِ قلْبٍ بنَشيدِ الحَياةِ خافِقْ
9. فاعلاتن مستفعلاتن فاعلاتن مستفعلانْ
يقول القروي:
سائلي الليلَ عن مَقالي يومَ أعْيا عنِ الكلامْ ضمّ صوتي إلى الليالي فانطَوَى في فمِ الظلامْ
10. فاعلاتن مستفعلاتن فاعلاتن مستفعلن
يقول القروي أيضاً:
سائلي البدْرَ عن عيوني عندما أفقِدُ البَصَرْ نَفَتِ النورَ عنْ جفوني فهْوَ في مقلةِ القَمَرْ
11. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلاتنْ
يقول الخفاجي:
عشْت يا منتدَى اليَراعِ يا ضياءً فوقَ اليَفاعِ يا سَناً مُشْرِقاً يَلُو حُ كشمسٍ بين البقاعِ عشْتِ يا "منهَلَ" النُّهَى أنتِ للفكْرِ كالشّراعِ
12. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن مستفعلانْ
يقول ابن سهل:
كيفَ أُصغي للعاذِلَيْنْ معَ صَبْري للعادِلَيْنْ إنّ خصْمِي عندَ الشّجَى في هَواهُ؛ قلبٌ وعَيْنْ أنا في الحبِّ صادِقٌ إنّ حبّب بِشاهِدَيْنْ
وأما مشطوراته:
13. فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
وعليه شعر كثير. قول المسيّب بن علس:
طالَ ليلي بِشَطِّ ذاتِ الكُراعِ إذْ نَعَى فارِسَ الجرارَةِ ناعِ فارساً في اللّقاءِ غيرَ يَراعِ
14. فاعلاتن مستفعلن فاعلانْ
يقول ابن مالك:
بِمَعالي أبي علِيٍّ أهيمْ رقَّ طَبْعاً، كالماءِ أو كالنّسيمْ ذو جَبينٍ طَلْقٍ، ووجْهٍ وَسيمْ
15. فاعلاتن مستفعلن فاعِلن
يقول ابن سهل:
مذْ رَنا فاتِراً بأجْفانِهِ والجَوى في فؤادِ هَيْمانِهِ وسْطهُ شَدّهُ بِتِيهانِهِ
16. فاعلاتن مستفعلن فعِْلانْ
يقول ابن الصباغ:
إنْ تكنْ باحِثاً عن الأسرارْ فانتَشِقْ صاحِ نفحةَ الأسْحارْ وأطِلْ في الأصائِلِ الأذْكارْ فهْيَ أذْكَى منْ عاطِرِ الأزهارْ
17. فاعلاتن مستفعلن فعِلنْ
ابن الخطيب:
حَفِظَ اللهُ ليلَنا ورَعى أيَّ شمْلٍ منَ الهوى جَمَعا غَفَلَ الدّهْرُ والرّقيبُ معا
18. فاعلاتن مستفعلن فعْلنْ
ابن الصيرفي:
ذاكَ ضوءُ الصباحِ قد لاحا ونسيمُ الرياضِ قد فاحا لا تَقِدْ في الظّلامِ مصباحا خَلِّ عنهُ، وشَعْشِعِ الرّاحا
19. فاعلاتن مستفعلاتن
نسيب عريضة:
يا حُداةَ القلوبِ رفْقا طالَ درْبُ الهوى وشَقّا فإلى مَ القلوبُ تشقى؟
20. فاعلاتن مستفعلانْ
ابن زهر:
فاصْطبِحْ بابنةِ الكرومْ مِنْ يَدَيْ شادِنٍ رَخيمْ حينَ يفتَرُّ عن نظيمْ
21. فاعلاتن مستفعلن
الصنوبري:
حبّذا يومُ أحمَدِ بينَ روضٍ مُنَجّدِ وحمامٍ مُغرِّدِ كلُّنا باسِطُ اليَدِ نَحْوِ نيلوفَرٍ نَدِي