لا تعرف السياسة المعاصرة صورة مشابهة لمثل تلك السياسة التي -كما يقال- تقطع على نفسها خطّ الرجعة، تحت عنوان "الخيار الواحد"، فكل سياسي محنك يعمل على الإمساك بمختلف أوراق "اللعبة السياسية" حتى اللحظة الأخيرة، لا سيما إذا كانت "لعبة دموية" مع طرف لا يتورع عن العدوان لحظة واحدة عندما يرى ثغرة يستطيع أن يحقق من خلالها مزيدا من مآربه وأطماعه.
تساقط الأوراق العتيقة
لمدة ربع قرن تقريبا، اعتمدت الدول العربية الرئيسية التي اعتبرت قضية فلسطين قضية قومية على الاتحاد السوفييتي السابق سندا لها، وكانت نكبة 1948م الكبرى في بداية تلك المرحلة ونكبة عام 1967م العسكرية الكبرى في نهايتها، وتمّ التحوّل تدريجيا إلى الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ينكر عاقل أن تلك الحقبة التي امتدت بضعة وعشرين عاما أيضا، بدأت بالنكبة السياسية الكبرى في كامب ديفيد، وانتهت بنكبة سياسية كبرى تالية، تنعي الوجود العربي نفسه أمام ما ترتكبه الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية من مجازر في الأرض الفلسطينية.. فما هي الورقة المتبقية لدى "النظام العربي" أو الأنظمة القائمة، وقد فقدت كلّ ما يشير إلى وجود "نظام" يجمعها على صعيد واحد، وبعد أن سقطت أوراق التبعية الأجنبية بمختلف ألوانها؟..
إن السياسة الأمريكية العدوانية الراهنة لا تكشف فقط عن الاندماج العضوي بين الأمريكيين والإسرائيليين تفكيرا وهدفا وأسلوبا فحسب، بل كشفت في الوقت نفسه عن عدد من النقاط البالغة الأهمية في تقويم الوضع الراهن، وفي مقدمتها:
1- دون التهوين من شأن القضايا الأخرى، كقضية العراق.. أو قضية النفط الخام.. أو قضية التخلّف.. أو قضية الأكراد.. تبقى قضية فلسطين هي قضية المنطقة بكاملها، والقضية المحورية الاولى، وأصبح واضحا أنه من المستحيل فصل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي منها عن أي جانب آخر من جوانبها، عربيا وإسلاميا، شعبيا ورسميا، إقليميا ودوليا.
2- سقطت أقنعة التمويه والتضليل عن حقيقة "الإرادة الشعبية"، وبات واضحا أنّ الشعوب العربية والإسلامية، وبغض النظر عن قدراتها الذاتية لتحقيق ما تريد، كانت وما تزال ترفض رفضا قاطعا، تعبّر عنه بكل وسيلة ممكنة ورغم ممارسة القمع العنيف ضدها، كلّ صيغة من صيغ التراجع الذي مارسته الأنظمة عن الحق المشروع في فلسطين منذ عام 1948م حتى اليوم.
3- كما أصبح واضحا للعيان أنّ ما يصنعه التحالف الأمريكي-الإسرائيلي في فلسطين اليوم، انتقل إلى مرحلة تهديد أركان عدد من الأنظمة العربية الرئيسية في المنطقة، سيّان في ذلك الأقرب أو الأبعد من سواها في مسيرة ترسيخ الوجود الإسرائيلي في المنطقة تحت عنوان "سلام عادل شامل" مزعوم، ودعوى "ما تقرره الشرعية الدولية" مهما ظهر حجم التزييف لها، وهذا في إطار الارتباط التبعي الخطير بالولايات المتحدة الأمريكية على مختلف الاصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
4- ليست الولايات المتحدة الأمريكية على استعداد أن تقدّم مباشرة ولا عن طريق لَجم الإسرائيليين حدا أدنى مما توجبه "لغة المصالح" مثلا، أو "تعهدات أمريكية ودولية سابقة" مثلا آخر، أو "علاقات ودّ وصداقة" مزعومة مثلا ثالثا، أو سوى ذلك مما كان –وما زال بعضه- يُرفع من شعارات مخادعة، لتبرير الارتباط التبعي بالسياسة الأمريكية، فهي متمسكة بنهجها المتعجرف حتى في ميدان التطاول إلى المطالبة بمنع تقديم ذلك الحدّ الأدنى من الدعم المالي لأسر الشهداء والضحايا في الأرض الفلسطينية، ودون التردّد عن الكشف الاستعراضي للتعامل المتعجرف مع الأنظمة المرتبطة بها، وإن كان في ذلك ما يعرّيها ويعرّضها للسقوط نتيجة اعتماد السياسة العدوانية الأمريكية في المنطقة اعتمادا كاملا عليها، بما في ذلك استخدام بعضها لضرب بعضها الآخر.
5- ولكنّ الأهمّ من سائر ما سبق أنهّ تبيّن أيضا أنّ ما يسمّونه الشارع العربي والإسلامي.. ثمّ -إلى حدّ ما- ما يسمّى الرأي العام العالمي، يمثلان في الوقت الحاضر الجهة الوحيدة التي تتجاوز اللعبة الإجرامية الإسرائيلية-الأمريكية، وتمارس ضغوطا على المسؤولين في الاتجاه نفسه.
خيارات مغيّبــة
إنّ من أبسط قواعد اللعبة السياسية في عالمنا المعاصر عدم الركون إلى خيار واحد، وركونُ الدول العربية إلى ما أسمته "خيار السلام الاستراتيجي" مع إقصاء غيره، لم يكن المرة الأولى في تاريخ تعاملها مع قضية فلسطين بالذات:
1 - فمنذ تحركت مصر وسورية على رأس المواجهة بين منتصف الخمسينات والستينات من القرن الميلادي الماضي، تعاملت مع الشعوب ومع الأنظمة الأخرى وفق أساس "خيار قومي اشتراكي علماني" قام منهجه على إقصاء ما سواه، فكان القمع الداخلي لمن يرفضه، وكان النزاع مع بلدان عربية أخرى رفضته أيضا..
2- كذلك فعندما جنح الرئيس المصري السابق أنور السادات عن الارتباط بالمعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي، سلّم سائر الأوراق لليد العدوانية الأمريكية بقولته المشهورة إن أوراق القضية في يد أمريكا بنسبة 99 في المائة..
3- والآن تلاقت كلمة النسبة الأعظم من الدول العربية على ما نادت به تحت عنوان "الخيار الاستراتيجي" ومرة أخرى يتكرر الفصل القديم من مسرحية يمكن وصفها بالعبث السياسي بالقضية في إخراج جديد، ويتجدّد القمع للشعوب الرافضة هذا الخيار الذي يعني التسليم لا السلام، ومسخ الحقوق الشرعية لا السعي لها، وتزوير الشرعية الدولية تبريرا للخضوع للإرادة الأمريكية المهيمنة على قرارات مجلس الأمن الدولي.
إنّ ما يجري في الوقت الحاضر.. هو إشهار إفلاس سياسات عدّة عقود ماضية، وليس إفلاس السياسة المتبعة في مرحلة انتفاضة الأقصى فقط.. وإن ما أسقطته الأحداث الجارية، هو المناهج "الإقصائية" المنحرفة التي مارست تلك السياسة مبدّلة "عناوينها" من دون مضامينها، ووجهة "التبعية الخارجية" فيها بدلا من الاستقلال الحقيقي بإرادة صنع القرار فضلا عن الخضوع للإرادة الشعبية.. فذاك وحده هو ما يمكن يبرّر بقاء أي سلطة على سدّ’ الحكم.
ليس ما يجري الآن.. وليد إجرام "شارون".. أو إجرام "بوش".. وليد "تغيّر" الظروف الدولية، إنّما هو وليد السياسات التي تحمل الأنظمة القائمة المسؤولية الأولى عن ممارستها.
هي المسيرة التي تحرّكت مثلا في قمّة فاس الأولى والثانية مع مطلع الثمانينات الميلادية، أي قبل حرب الخليج الثانية وما يقال عمّا صنعته في المنطقة بثمانية أعوام كاملة، فاستأنفت ما بدأ في كامب ديفيد الساداتية، وأفضت إلى مدريد الجماعية، ثم إلى أوسلو الانفرادية، فكانت مسيرة التنازلات بكاملها، وبسائر تلك العناوين الجانبية التي حملتها، أشبه بعملية "انتحار سياسي وأمني" منها بسياسة "واقعية" أو غير واقعية قابلة لتحقيق أهداف كبيرة أو صغيرة في العالم المعاصر.
إنّ الانهيار الراهن نتيجة حتمية لسياسات –أو ما يسّمى سياسات- محلية متبعة قبل أن يكون نتيجة سياسات خارجية مفروضة.
1- كل ما قيل مرافقا لفاس ومدريد بشأن تحرّك الدول العربية معا، انهار أمام انفراد كل طرف عربي بما يراه نظام الحكم القائم فيه.. بمعزل عن الآخرين
2- كلّ الشعارات التي تحدّثت عن "الأرض مقابل السلام" –حتى بمفهوم الكلمة الممسوخ- سقطت ضحية إقدام عدد من دول أقصى المشرق الخليجي العربي وأقصى المغرب العربي الافريقي على التحرك في إقامة علاقات تجارية وغير تجارية، بسبب فاضح ودونما سبب، مع الطرف الإسرائيلي، وذلك قبل تحقيق أي تقدّم على "الأرض" كما يقال، بل ورغم الغدر الإسرائيلي الإجرامي الدموي المتكرر ما بين جنوب لبنان والضفة الغربية وقطاع غزة.
3- كلّ ما كان يقال بشأن دعم المقاومة الفلسطينية وحتى دعم منظمة التحرير الفلسطينية، غاب ليحل مكانه ترك أهل فلسطين جميعا، وبغض النظر عن السياسة المتبعة من جانب الطرف المهيمن على صناعة القرار لديهم، ليتحرّكوا وحدهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي-الأمريكي، سلطة محاصرة تتنازل، وفصائل تقاوم، وشعبا يناضل بنسائه وشيوخه وأطفاله وشبابه، بصدوره ونحوره.
4- كلّ "قواعد التعامل" الماضية التي كانت تربط علاقات الدول العربية بدول العالم بمواقف تلك الدول من قضية فلسطين، أُسقطت وأجهضت نتائجها القديمة، حتى بات التعاون العسكري الإسرائيلي مع عدد من الدول "الصديقة" للدول العربية سابقا هو الأمر الطبيعي، مقابل عدم حصول تلك الدول العربية -مهما كان موقفها التبعي تجاه الغرب- على سلاح متقدّم أصلا، بل ولا على أي سلاح دون شروطٍ مباشرة بعدم استخدامه في ساحة الصراع الرئيسية بالنسبة إلى مصير المنطقة بكاملها، بل أصبح بعض الدول العربية نفسها اليد التي تضرب بها "الدول الشقيقة" الأخرى، وتقدّم العون الأكبر من أجل "نزع سلاحها" كما جرى ويجري مع العراق –ولندع حكاية الحكم الاستبدادي بالعراق.. فالحديث عنها فاضح للجميع- ولكن إن قيل مجدّدا إن غزو الكويت كان السبب، فما الذي يمكن أن يبرّر تجنيد أجهزة الأمن داخل البلدان العربية، ضدّ من لا يملك من ابناء الشعوب العربية أكثر من المظاهرات وحرق العلام ومقاطعة سلع مستوردة من الدولة الأمريكية المعادية!..
وعي الشعوب واهتراء الأنظمة
لقد حوّلت بعض الحكومات مسألة إقامة علاقات مع الدولة العبرية من "ثمن" مزعوم يراد تقديمه شريطة الانسحاب من أرض احتلت عام 1967م على الأقل، إلى "هدف" لا علاقة له بقضية فلسطين أصلا، وتحوّل عنوان "التطبيع" من نقطة في جدول أعمال مفاوضات متعددة المستويات كما قيل، إلى مسألة نزاع.. بين الحكومات ومن يرتبط بها لأسباب متعددة، وبين الشعوب الرافضة لتطبيع ما يستحيل تطبيعه.. مع عدو لم يتوقف قط عن سلب مزيد من الأراضي، وتشريد مزيد من الاهل، وعن ارتكاب المجازر من دير ياسين حتى جنين دون انقطاع.
والمعتاد في الحياة السياسية أن تكون "النخبة الحاكمة" هي الأوعى سياسيا، والأقدر على مواجهة الأخطار الخارجية، وعلى ابتكار السبل الأفضل إن لم تتوفر ابتداء من أجل ردّ تلك الأخطار. وصحيح أن التحالفات والعلاقات على المستوى الدولي تلعب دورا في تحديد عناصر القوّة المعتمدة في الحياة السياسية القائمة على "الصراع" في الدرجة الأولى، إلا أن إغفال العناصر الأخرى كان وما يزال هو السبب الأوسع انتشارا في عدم تحقيق الأهداف السياسية الكبرى.
وحتى في المواجهات العسكرية المباشرة يعدّد الخبراء من مختلف الجنسيات عددا من عناصر التعبئة، السياسية الداخلية والخارجية، والاقتصادية، والشعبية، كعناصر حاسمة، دون إغفال القوة العسكرية نفسها، ولكن دون إغفال عنصر "الإدارة السياسية والعسكرية" أيضا.
إن التخلي عن الخيار العسكري لا يمكن تفسيره في إطار قضية فلسطين بالذات بما يدور عنه الحديث عن الحرص على "خيار السلام" سبيلا لاسترجاع قسط من الحقوق المشروعة، بل يعتبر من البداية خطوة في الاتجاه الخاطئ حتى بمقياس ذلك الحدّ الأدنى الذي هبطت إليه المشاريع العربية المطروحة من قبل قمّة فاس حتى اليوم.. فقد كان "السلام" نفسه بذلك المفهوم يتطلب دعم الطرف المفاوض عليه بالخيار العسكري، وليس المقياس هنا مقياس تفاوت "العدّة العسكرية"، فمع كل ما لها من أهمية حاسمة في مجرى أي معركة عسكرية تنشب، يبقى أن عامل ما يمكن تحقيقه من خسائر لدى الطرف الآخر -ولو كان هو الأقوى- أحد العوامل المؤثرة في مجرى المفاوضات، هذا على فرض التسليم بأن القوة العسكرية العربية "ضعيفة".. فميزان الضعف الحقيقي الأهم في هذا المجال، هو ما يسود في البلدان العربية من تفرقة ونزاعات، فضلا عن ربط الجيوش وسواها من القوى شبه العسكرية، بمهمة حماية الأنظمة القائمة تجاه المعارضة الداخلية، وليس بتوجيهه مع تلك القوى والميليشيات "الأمنية" المسلّحة كالجيوش وأجهزة المخابرات القمعية، لمواجهة أخطار خارجية اقتحمت سائر الأبواب وباتت عواقبها الوخيمة داخل الديار، سائر الديار.
على أن الأخطر من إسقاط الخيار العسكري هو إسقاط الخيار الشعبي، فغلبة عنصر الاستبداد على معظم الأنظمة العربية، أو بتعبير "ألطف" انفراد "النخب" الحاكمة بصناعة القرار على مختلف المستويات، والتعامل مع الشعوب بأسلوب "الوصاية" من أعلى، أفقد الدول العربية منفردة ومجتمعة القدرة على مواجهة الأخطار الخارجية.
ولقد بلغت هذه الظاهرة أخطر مراحلها، من خلال ما بات يُرصَد يوميا، في بلدان عربية عديدة، جنبا إلى جنب مع كارثة الاستخذاء عن نصرة الانتفاضة، من كوارث خطيرة أخرى تنذر بإشعال الفتنة الداخلية –لولا وعي الشعوب نفسها- وذلك عبر توظيف الأجهزة الأمنية لكبت المواقف الشعبية التي تطالب بنهج آخر في التعامل مع قضية فلسطين المصيرية، ومع الولايات المتحدة الأمريكية وعدائها السافر للعرب والمسلمين على مختلف الأصعدة.
رغم أن القيادات التي وُلدت من خلال الصحوة الإسلامية، وخمود فتنة الصراع القديم بين تيارات علمانية وإسلامية، والتي ولدت أيضا عبر الانتفاضة الشعبية الراهنة المواكبة للانتفاضة الفلسطينية، وفي حركات المقاطعة الشعبية مع مكافحة ما يسمّونه "تطبيعا".. رغم أن هذه القيادات كانت وما تزال حريصة على توجيه الحربة نحو العدو الإسرائيلي والأمريكي، وليس نحو الأنظمة نفسها، فإن أساليب القمع المتبعة من جهة، ومحاولات التنفيس الوقتي من جهة أخرى، اتخذت اتجاها يصعب القول إنه يعبر عن "وعي سياسي" لدى النخب الحاكمة نفسها.. ومن هنا التأكيد أن الشعوب أصبحت على درجة من الوعي تفوق وعي النخب الحاكمة نفسها، وهنا يرتكز الأمل في أن تشهد المرحلة المقبلة تغييرا قائما على منهج قويم وعقلاني موضوعي، يعيد الأمة إلى المسار الصحيح في مواجهة الأخطار الخارجية، دون أن يتحوّل الغليان الراهن إلى انفجار خطير.. وقد يكون هذا رهنا إلى حد بعيد بعدول السلطات عمّا تمارسه من ضغوط قمعية داخلية لا بدّ أن تصنع المزيد من الاحتقان.
إن التعامل مع الشعوب تعاملا قائما على رفع الوصاية والعمل من أجل تعبئة الطاقات الذاتية، هو الورقة الاخيرة التي تملكها هذه الأنظمة، ليس في مواجهة الخطر الإسرائيلي والأمريكي وسوى ذلك من الأخطار الخارجية فقط، بل وكذلك من أجل العمل قبل فوات الأوان لتجنّب السقوط والانهيار.