جمالية المكان في رواية «نفق المنيرة» لحسني سيد لبيب (2 ـ 3)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
.................................
المكان والزمان:
يرتبط نفق المنيرة بأحداث عاشها البطل (حمزة)، يستدعيها من خلال كلمة كُتبت خلال العدوان الثلاثي (1956م) على جدران النفق، وظلت محفورة على في وجدان حمزة، تستثيره، وتذكره بمشاركته في الدفاع المدني، وذهابه متسللاً إلى بور سعيد، وتذكره دائماً بالرصالصة التي استقرت في فخذه ومازال أثرها ظاهراً للعيان: «في جعبة حمزة مرويات كثيرة تتداعى إلى خاطره، أشهرها ما كتب من عبارات تثير الحماس، على جدران النفق أيام حرب بور سعيد : سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل.. يستطرد مزهوا بأنها كلمات الزعيم جمال عبد الناصر في خطبة الأزهر المشهورة. ألهبت الكلمات حماسه فانضم إلى صفوف المقاومة الشعبية، وشارك في قوات الدفاع المدني. تسلل مع المتطوعين عبر بحيرة المنزلة إلى بور سعيد. يستطرد باعتزاز راويا قصة الرصاصة التي استقرت في فخذه، وأثر الجرح ما زال ندبة تزين جسمه. يرفع طرف الجلباب ليعرض أثر الجرح، كلما استدعت المناسبة أن يحكي وقائعها، أو أنه يقحمها بلا مناسبة لكل من يأنس منه أذنا منصتة.. وتتداعى الخواطر معتزا مزهوا بأنه لم يترك مكانه بجوار النفق» (9).
فكأن جدران النفق لوحة حية لمشهد معاصر من تاريخ مصر، وتتسع دلالة المكان هنا وتصير أكثر رحابةً، فكأنَّ «نفق المنيرة» شاهد حي على تاريخ مصر المُعاصر.
وفي مشهد مؤثر ينقل الكاتب غرق مركبة في النيل «ظهر الاثنين الأول من نوفمبر عام 1965.
طرق متواصل على الباب جعل أم فتحي تهرع من المطبخ إلى الباب تفتحه، فإذا مصطفى متقطع الأنفاس.. ينزل فتحي السلالم ركضا إثر سماعه صوت صاحبه..
ـ ادخل.. ادخل..
لكنه لا يدخل. شده من ذراعه إلى الداخل، وصوته يعلن في ألم:
ـ التروللي وقع في النيل..
صكت صدرها بكفها.. ارتدى فتحي الملابس على عجل، وخرج معه، متجهين إلى حيث سقط التروللي باس رقم 44 أمام مستشفى العجوزة.
خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع .. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال، تخرج معهم في مسيرة جنائزية مهيبة. بعض النساء خرجن بجلابيب البيت، حاسرات الشعر حافيات الأقدام»(10).
فهنا يحدد الزمن حيث كانت القرى والمدن الصغيرة مثل أسرة واحدة، ومكان الحادث (44 أمام مستشفى العجوزة)، والحادث كما يرويه السارد (التروللي وقع في النيل)، والاستجابة (خرجت إمبابة كلها لدى سماعها النبأ المروع .. الرجال والنساء والأطفال.. حتى البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال).
لقد جعل الروائي للأمكنة (البيوت والمساجد والمدارس والشوارع والحواري والترع والأشجار والمحال) حضوراً ومُشاركةً في المأساة المروعة.
وقد تأنف شخوصه من البيت، وتتصوره في لحظات الضيق كالسجن، ومن ثم تخرج، لتمشي، وتتجول، وتجلس على المقاهي:
«طلب من صاحبه الخروج، تحررا من حبسة البيت. تجولا كعادتهما في شوارع المنيرة ومدينتيْ العمال والتحرير.. وعلى مقهى الربيع كانت جلستهما المفضلة، إلى منضدة في ركن داخلي، اتقاء لسعات البرد. لعبا النرد فتعادلا. ارتاحا للنتيجة فنهضا.. وجل حديث فتحي عن مارسيل ومريم، اكتشافه المذهل، وتهيؤه للقائهما غدا الخميس.. وأن عليه مذاكرة واجب الأستاذ شفيق الليلة.. إلا أن الثرثرة ـ داءه المزمن ـ يقابلها عند أمين صمت مطبق!
عرجا على نفق المنيرة، وتجالسا مع حمزة وصاحبه عويس، الذي أكمل لهما السهرة بأغنيات أم كلثوم من مذياعه الترانزستور، حتى انتصف الليل، ثم انصرف كل إلى بيته..» (11).
المكان والأحداث:
من البديهي ـ كما يقول رشاد رشدي ـ «أنه ما من حدث يقع بالطريقة المعينة التي وقع بها، إلا كان نتيجة لوجود شخص معين ـ أو أشخاص معينين ـ يترتب عليه وقوع الحدث بطريقة معينة … لأن الحدث هو الشخصية وهي تعمل»(12).
ومعروف أن «الحدث هو الموضوع الذي تدور حوله القصة، وهو مجموعة من الوقائع الجزئية المترابطة، وهذا الترابط هو الذي يميز العمل القصصي عن أي حكاية يروي فيها شخص لصديقه ما وقع له من أحداث، فأحداث القصة الفنية لها إطار عام، يدفعها في تسلسل إلى غاية محددة»(13).
والحدث الرئيس في هذه الرواية يدور حول تشقق جدار نفق المنيرة، حيث رأى حمزة فيما يرى النائم أن النفق تشققت أحجاره، ويبدأ السارد الحدث برؤيا مماثلة للعالم الأثري محمد نافع الذي كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري.
وللمكان حضوره اللافت في الغوري ونفق المنيرة، وما جاء ذكر الغوري والعالم الأثري محمد نافع، إلا ليُطلعنا السارد على اهتمام لشخوص بالأمكنة التي التي احتلت وجدان الرجلين، فأبعدت عنهم السكينة، حينما وجدا ـ فيما يرى النائم ـ أن الجدران تتشقق وتنهار، ومن هنا يكون النهوض للعمل:
«يحدثنا أحد الكتّاب عن تفاني العالِم الأثري الجليل محمد نافع في عمله وولعه به، حين كان يقوم بترميم قبة السلطان الغوري، التي تشققت جدرانها، فرأى فيما يرى النائم أن الجدران انهارت.. فقام فزعا من نومه ولم يصبر حتى يطلع النهار، وغادر منزله بالعباسية ماشيا على قدميه إلى الغورية فوجد الحال كما هي وأن ما رآه أضغاث أحلام.
ما حدث لمحمد نافع حدث مثيل له مع حمزة بن محمد بن صابر بن رمضان، الذي استغرق في نومه، وسبح في دنيا الأحلام، فرأى فيما يرى النائم جدار نفق المنيرة قد تشققت أحجاره، فإذا به يجري وهو جزع. يتحسس الجدران، يمرر سبابته على شق من الشقوق، تجزع نفسه، يصيح : ربي.. حلم أم علم ؟ يقرص لحم فخذه حتى يتنبه.. يصيح.. يتردد صدى الصيحة في فضاء لا نهاية له، يا هووه.. يا خلق الله .. النفق ينهار.. أنقذوا النفق.. أهو زلزال مفاجئ أم انهيار كامل ؟ لا يدري. لا أحد يجيب. يجري كالمجنون. يرفع ذراعيه باسطا كفيه على الجدار متحسسا الشقوق، يبكي، يتألم. الناس في بيوت مغلقة لا تسمع، أو أنها تتجاهل الصرخات» (14).
المكان والشخصيات:
إذا كانت الرواية جعلت المكان بطلاً، فإن الرواية مليئة بالأمكنة، التي تتقاطع مع الشحوص، وتؤثر فيها.
فمن شخوص الرواية مصطفى الذي استشهد في الجبهة (في حرب 1967م مع العدو الإسرائيلي)، إن السارد يبدأ سرده عن شخصية مصطفى من خلال المكان «انصرف من المدرسة بصحبة أمين. التقيا مصطفى الذي سيطر بحديثه عن نرجس، البنت التي أحبها. شرح كيف التقاها أول مرة، حين جاءت زبونة تريد رتق صندلها. عرفته بنفسها، تلميذة في مدرسة باحثة البادية. يتبادل معها كلمات قليلة. أبانت له أن أخته سعاد دلتها على المحل. أعجب بحديثها. آلمه أنها تكبدت السير من المنيرة حتى شارع مراد. قالت إنها تسكن في المنيرة أيضا بالقرب من سكنه، وأن سعاد صديقتها. أصر أن يرتق الصندل بالمجان.
التزم أمين الصمت، يسمع ولا يعلق ولا يبدي رأيا. هذه ليست أول بنت يتحدث عنها. عرف كثيرات قبلها. يعمل مصطفى في محل إسكافي. يرتق الأحذية القديمة على ماكينة أو يحيك بالإبرة ما تمزق من جلدها.. ينظف بعدها الحذاء ويلمّعه بالورنيش. يظل يعمل حتى الواحدة ظهرا فيعود إلى داره سيرا على الأقدام، من شارع مراد مخترقا سوق الجمال والجرن وسيدي إسماعيل الإمبابي، مارا بمدرسة التجارة للبنات. ما أكثر أحاديثه مع فتحي عن البنات اللاتي يقصدن المحل، أخراهن نرجس. يعود إلى المحل في الثالثة بعد الظهر، حتى أذان العشاء، فينصرف إلى البيت منهك القوى. يغتسل طاردا رائحة الجلد والورنيش، ويتعشى ويشرب الشاي. ثم يستسلم لنوم عميق، ما لم يخرج مع الصحاب.. حسده فتحي على زبائن المحل من البنات. لم يصدق أن عاملا بسيطا مثله يمكن أن تقع بنت مدارس في هواه»(15).
فهنا ذكر لشوارع، ومدرسة، ومحل يعمل فيه مصطفى، ومن خلال محل الإسكافي الذي يعمل فيه يتعرف على البنات، ومنهن نرجس.
وعندما نتعرف على نرجس فإنه يرد ذكرها بعد وفاة أخت مصطفى، ونرى نرجس وهي داخل حجرة في بيت مصطفى تُقدم العزاء للأسرة: «فوجئ فتحي بنرجس تقتحم مجلسهما بصحبة أمها. انتفض كالمذعور ليقف بمحاذاة مصطفى، مادا يده مثله يتقبل عزاءهما. برغم الثوب الأسود الذي ترتديه، إلا أنه أفصح عن جمال صارخ، أكثر مما يكشف عنه ثوب آخر. عقصت شعرها الأصفر إلى الوراء. عيناها الزرقاوان، ووجهها الأبيض المدور، علامتان للجمال لا تخطئهما عين. لم يفلح احمرار العينين من شدة البكاء، في إخفاء الجمال المعلن. توجهت الجميلة الحزينة هي وأمها إلى غرفة السيدات.. أخذ يحدثه عن وفائها. قال إنها غير ما عرف من البنات. أوضح له:
ـ نرجس صاحبة المرحومة.. الروح بالروح..
وأشار بإصبعيْ السبابتين ملتصقين..»(16).
(يتبع)