الحرية
إن أي لفظة حين توضع لتدل على معنى معين في ذهن واضعها فالألفاظ والكلمات هي القوالب التي تصاغ فيها المعاني الكامنة في النفوس للتعبير عن هذه المعاني. فالكلمات ماهي إلا محاولة لتجسيد ما في النفس من رغبة أو إحساس أو عاطفة لنقلها للآخرين، والكلمات هي الوسيلة المستعملة عند البشر للتفاهم والمخاطبة وقضاء المصالح وتبادل المعارف، وتصير أدق العواطف والمشاعر والأحاسيس فهي محاولة نقل المعنويات وتجسيدها إلى ماديات يمكن إدراكها وتحديد أبعادها.
وحين نسمع كلمة أو جملة أو تعبيرا، ولم نكن قد سمعناها سابقا، أو لم نعرف معناها، فإننا نرجع بمعرفة معناه إلى أهل اللغة التي قيلت بها تلك الكلمة أو العبارة وجوابهم لنا حجة علينا يصح لنا أن نصير إلى معنى آخر، بل المعنى هو ما قاله أهل اللغة نفسها،سواء في معاني المفردات أم معاني الجمل، أم ما اصطلح عليه من معنا اصطلاحية أو عرفية أو شرعية أو مجازية وإنه وإن جاز أن نضع في الاعتبار عند فهم ذلك اللفظ. الظرف الذي قيل فيه، وقرينه الحال التي لازمته، بل يجب ملاحظة ذلك إلا أنه لا يجوز مطلقا أن نخذ المعنى تقديرا على ما في نفس القائل، فنقول كان يريد كذا وكذا، ولا أن نفسر المعنى حسبما يقتضيه هوانا، بل لا بد من النظر في اللفظة، والجملة، والفقرة، والمقالة، والموضوع من حيث مدلولات الألفاظ والكلمات التي استعملت فيه وحسب وضع أهل اللغة فقط، فلا تلحظ رغبة الكاتب ولا هوى المستمع، هذه هي القاعدة التي يجب أن تتبع عند فهم أي نص، مهما كان مصدره نعم إن مدلولات اللغة لا تعني فقط منطوق النص، فللنص منطوق وله مفهوم موافقه، وله مفهوم مخالفه،وله معقول، إلا أن ذلك كله هو من وضع أهل اللغة للمعاني التي تحتويها لغتهم وتعابيرهم، وأسلوبهم في الكلام.
هذه مقدمة موجزة عن كيفية فهم التعابير اللغوية حيثما وجدت، وبناء على هذه القاعدة نريد أ،نفهم أولا ثم نحاكم كلمة حرية إذ لا يصح محاكمة أي شيء حتى يعرف واقعه معرفة حقيقة، إن كلمة حرية كلمة عربية مثلها مثل ما اشتق من هذا الجذر-حر-كلمة أحرار وتحرر، وتحرير، وحريات، وقد حددت معانيها في اللغة بحيث أنها معروفة لدى جميع الناس، إلا أن كلمة حرية كمصطلح جديد صار لا بد من معرفة معناه من أصحابه الذين أطلقوه على بعض المعاني في نفوسهم، ولذلك فقد أطلقوه بالأجنبية بتعبير (Free) وبتعبير(Liberty) وبنوا على هذه اللفظين معني متعددة:
الحريات النقابية (Freedom of association) الحرية الجنسية (Free Love) حرية الإرادة (Free Will) حرية _(Freedom) أحرار الفكر (Free thinkers) الإباحية (Libertinism) المذهب الفردي(Liberalism) الحرية المدنية (Libertie civil) حرية(Liberty) الحرية الاقتصادية (Laissez fair).
هذه بعض ما أطلقت عليه هذه الكلمة سواء في العربية أم في الأجنبية، وكلها تدور حول معنى واحد، هو القدرة الذاتية على الاختيار، دون أدنى جبر أو إكراه، من أية جهة كانت، ويعني ذلك تحرر الفرد أي انفلاته من كل قيد أو انضباط والتصرف بحسب رغبته وهواه إلا أن استحالة تطبيق هذا الأمر على الواقع الانساني جعل الفكرة خيالية لا يمكن تصورها إلا بمجتمع الغاب، ولما كان الإنسان لا يحيا ولا يطيق أن يحيا بمجتمع الغاب، فإن تطبيق هذه الفكرة عليه خيال،ولذلك فقد وجد أصحاب هذا المذهب أنفسهم مضطرين أن يقيدو هذه الحرية بقيد يحافظ على الأقل على بقاء المجتمع البشري كان هذا القيد هو، عدم الاعتداء أو الإضرار بحرية الآخرين، ثم يتبع هذاالقيد تبني حملة هذا المذهب فكرة إقامة الدولة لحماية الحريات،وقد تبع إقامة الدولة، وجوب التزام ابتاعها بما تسن من نظم أو قوانين، بالرغم من أن أي قيد هو نقيض الحرية وأن أي إجبار للانسان أو إكراه له بالتزام سلوك معين، او السير على نظام معين إنما هو نقيض الحرية ومناف لها، ولو شئنا الالتزام بحرفية معناها، وما تدل عليه حقيقة لوجب إلغاء هذه الكلمة نهائيا وأنها فعلا كلمة خيالية لا وجود لها، إذ ما من إنسان إلا ويخضع لجهة أخرى خارجة عن ذاته ومهيمنة عليه، شاء أم أبى.
وبالرجوع إلى ما أطلق العرب على معنى هذه الكلمة وما اشتق منها من معان وألفاظ أي كلمة حرية، لمعرفة مطابقتها إلى المعاني الأجنبية التي وضعت لها نكاد نجزم أن المترجم قد وفق بأخذ المعنى المقابل له، ولا نكاد نجد معنى من تلك المعاني ليس له بالمقابل ما يطابقه.
فكلمة حر تعني السيد الذي يملك ممارسة إرادته دون جبر أو إكراه، وهو نقيض معنى العبودية (Slave) فالحر هو الذي يمارس إرادته دون جبر أو إكراه من أية جهة على نقيض العبد الذي يمارس جبر أو إكراه من أية جهة على نقيض العبد الذي يمارس إرادته حسب رغبة سيده بالقدر الذي يريد سيده لا بحسب رغبته وهواه، وبمثل هذا المعنى نسبيا نطلق كلمات أحرار، تحرير، تحرر وكلها تدور حول معنى واحد وهو رفع هيمنة الآخرين عنهم سواء أكانت هيمنة سياسية أو عسكرية أو فكرية أو ثقافية. وقيام الحركات التحررية في العالم هو وجود حركات تسعى لتحرير شعوبها من هيمنة مفروضة عليها.
إلا أن معنى الحرية المبحوث عنه الآن، فإنه وإن كان لا يخرج كثيرا عن هذه المعاني العربية بل يشترك معه في المعنى الأصلي وهو رفه الهيمنة، ولكنه له معنى خاص به وله مدلول مستهدف من قبل الداعين له وهو تمكين الفرد من مباشرة أعماله واشباع رغباته وتسيير سلوكه دون قيد أو شرط، دون ضغط أو إكراه، وهذا ما يعبر عنه عادة بتمكين الفرد من حرياته العامة، أو حرياته الأربع وهي حرية الاعتقاد وحرية الرأي وحرية التملك، وحرية التصرف والسلوك الشخصي فهذا هو بيت القصيد وهذا هو البحث الذي نريد أن نعطي فيه الرأي بعد محاكمته.
عدم مطابقة الحرية للواقع
وكما بدأنا بمحاكمة الديمقراطية فقلنا أن صدق الأفكار وصحتها يتطلب وجود مقياس دقيق تقاس عليه وقواعد ومسلّمات تستعمل في إظهار الخطأ من الصواب فاحتكمنا فيها إلى العقل باعتباره مناطق التكليف، وباعتباره الجوهرة التي ميزت الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، والنعمة الكبرى التي جعلته سيد الكون، فسخر له الله سبحانه وتعالى كل شيء، كما احتكمنا أيضا إلى قاعدة ثابتة يقضي بها كل ذي لب، وهي أن الفكر الصحيح، والرأي الصائب هو الفكر أو الرأي أو الخبر الذي ينطبق على واقعه، ولذلك كانت قاعدة مطابقة الأمر للواقع قاعدة صحيحة، وعليها نستطيع تمييز الخطأ من الصواب، وانطلاقا من هذه القاعدة نقول:
بعد أن تبينت لنا كافة المعاني التي تشير إليها كلمة الحرية، وفهمنا ما تدل عليه جملة وتفصيلا فكان الجذر الذي انبثت منه جميع هذه المعاني هو الانفلات من كل قيد فالسؤال الذي يرد الآن هو هل لهذا المعنى وجود في الواقع الآن؟ وهل يمكن أن يكون له واقع مستقبلا، وما هي النتيجة التي يمكن أن تتربت عليه إن سلمنا جدلا بإمكانية وجود مجتمع أو إنسان يعيش على أساس هذه الفكرة؟.
أما الإجابة على السؤال الأول وهو هل لهذا المعنى وجود في العالم الآن فإن الإجابة بالنفي مؤكدة، وذلك أنه ليس هناك مجتمع بشري في الوجود يعيش كل إنسان فيه على هواه وتبعا لرغبته، واتباع حاجته، سواء في المتجمعات المتحضرة، أم في المجتمعات البدائية، البدوية منها والحضرية، بل اننا نجد أن الإنسان كلما ارتقى فكريا كلما زاد ارتباطا وانضباطا بالقوانين والنظم، وحتى الأعراف، ولهذا فإن الجواب بالنفي على السؤال الأول كأنه هو الجواب الحق –فلا وجود لمجتمع بشري يعيش على فكرة الحرية، والتي تعني الانفلات من كل قيد.
المفهوم الجديد للحريات
بعد أن تعذر تطبيق فكرة الحرية بمعناها الكامل، واستحال تطبيقها على الوقع، وإصرارهم على الاحتفاظ بالاسم بدون مسمى، والإطار بلا محتوى، فأطلقوه الآن على واقع مجتمعاتهم، معتبرين أن ممارسة الإرادة من قبل الأفراد هي بالخضوع للقوانين، وقد راعى المقنن كذلك ممارسة الإرادة-الحرية- في كثير من الأمور، فكانت فكرة الحرية قاعدة من قواعد التشريع يجب أن يراعيها المقنن حين وضع تشريعاته ومن هنا قدر المشرّع عندهم الإبقاء على الحريات العامة، ولو ضمن القوانين المرعية، أي في قيود معينة وعليه فقد ترك المشرّع للفرد مايلي:
اولا: حرية الاعتقاد:فقالوا أن للفرد أن يعتقد ما يشاء، أو يتنقل بين العقائد كما يشاء فليس لاحد سلطان عليه يلزمه باعتقاد عقيدة ما، أو يجبره على التخلي عن عقيدة ما. له أن يعتنق النصرانية اليوم ثم يتخلى عنها غدا إن شاء، كما له أن يعتنق اليهودية أو الإسلام، وله أن يتخلى عن اعتقادهما إن شاء، فليس لأحد أن يتدخل به، فله أن يمارس إرادته ويتمتع بحريته شريطة أن لا يسيء لعقائد الآخرين بالقول والعمل، وله أن يتعبد على أي دين وأن يعتنق أي مذهب، أو أن ينكر الديانات والمذاهب ضمن ما تجيزه قوانين البلد الذي يعيش فيه، وإنه وإن كان يتصرف ضمن ما تجيزه القوانين ويعتقد بما أجازت له القوانين المرعية إلا أنهم أصروا كذلك على تسمية هذه الإجازة حرية التدين، أو حرية الاعتقاد.
ثانيا: حرية الرأي:
أي أن له أن يعبر عما يجيش في صدره من معاني بأي أسلوب شاء، فهو يكتب وينشر ويحاضر ويتحدث بما يحلو له، جادا أو مازحا، مؤمنا بما يقول أو غير مؤمن، وسواء أكان هذا الأمر متعلقا بالحكم أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الدين، وله أن سفه أي رأي لدى إنسان أو جهة، شرط أن لا يتعرض للنواحي الشخصية أو الأمور الذاتية ضمن ما تجيزه الاحكام والقوانين كذلك.
ثالثا: حرية التملك:وكما أجازت حرية الاعتقاد وحرية الرأي فقد أجازت كذلك حرية التملك، فقد سمحت التشريعات القائمة على أساس الحرية للفرد أن يتملك ما يشاء وبأية كيفية يشاء، وبمقدار ما يستطيع ولكن كذلك ضمن القوانين والأحكام لا يجوز له أن يتعداها، كما له أن ينفق أو يصرف من ملكيته ما يشاء.
فحين أباحت له أن يمتلك أية مادة يريد ضمن القانون فقد أجازت له امتلاك أية مادة استهلاكية أو أية مادة إنتاجية فله أن يمتلك الرغيف والفاكهة والسيارة فقد أجازت له كذلك أن يمتلك الأرض والمصنع والمنجم وذلك بتفاوت بسيط بين بلد وآخر لأنه حين فشلت هذه الأحكام في معالجة مشاكل الناس عمدت بعض الدول إلى نقل بعض الملكيات الفردية إلى ملكية الدولة وحرمت على الأفراد وامتلاكها بقانون أطلق عليه قانون التأميم، والذي يجيز للدولة أن تنقل الملكية للدولة حين تتعلق مصلحة الجماعة بها بعوض يساوي قيمتها قبل عملية النقل، أو ما يشابه هذا المعنى، وبهذا تكون قد خالفت ما أجازت ابتداء وحرمت على الفرد امتلاك بعض الأعيان، مع اختلاف بين بلد وآخر حول هذه الأعيان ومثل تحريم بعض الأعيان دون بعض، كتحريم الحشيش والأفيون وإباحة الخمور والتجارة بالخنزير وغيره، ومثلما أباحت الأعيان والمواد التي تمتلك فقد أباحت كذلك وسائل التملك وأساليب تنمية الملكية أو حيازتها، فمثلما أجازت العمل والتجارة والبيع والشراء والهبة والهدية أباحت كذلك المقامرة والربا والنوادي الليلية، والتكسب عن طريق الجنس والمتاجرة فيه، كما أباحت الشركات والتعاونيات،ولكن بتفاوت واختلاف بين بعض الدول والمجتمعات.
كما أنها أباحت الكمية أي أنها لم تضع حدا أعلى للكمية التي يمتلكها الفرد، فللفرد أن يمتلك أكبر قدر ممكن من الأموال فليس من حق أحد أن يحد من نشاطه، أو أن قف عند حد في تنمية ثروته، إلا أن الحكومات والدول ولكن بتفاوت فرضت ضرائب على الكمية أسمتها ضريبة الدخل،وغالبا ما تكون ضريبة تصاعدية تتناسب مع الكمية التي يكسبها الفرد في حياته العملية، خصوصا في بعض الدول والمجتمعات التي تدعي الاشتراكية، أو التي تطبق اشتراكية الدولة.
وكما أجازت في الامتلاك وتنمية الثروة كالملك فإنها تركت للفرد أن يتصرف بأمواله كما يحلو له، فله أن يهبها لمن يشاء أو يتلفها بأية كيفية يشاء، وليس متغربا أن نسمع أن أحدهم أوصى بتركته إلى كلب أو هرة، أو إلى جمعية الرفق بالحيوان، و أي شيء آخر.
رابعا الحريات الشخصية:أي التصرفات الفردية، من مثل علاقة الإنسان بنفسه أو بغيره فيما هو من شؤون الغير، فقد تركت هذه الفكرة إلى أصحابها ممارسة إرادتهم ممارسة كاملة دون جبر أو إكراه، وله أن يمارس هذه الإرادة وحرية الاختيار مع من يشاء دون جبر أو إكراه أو ضغط أو تهديد فهو يلهو ويلعب ويأكل وينام،ويتمتع منفردا أو مع غيره في كل ما يوافق هواه ورغبته فلا سلطان لأحد عليه، ضمن القوانين المرعية والمعمول بها، وقد تفاوتت المجتمعات والدول بحدود هذه الحرية مع أنها جميعا ضمن القوانين، فمن القوانين ما أ<از اللواط ومنها ما حرّمه، ومنها ما أجاز الزنا ومنها ما حرمه، ومنها ما اجاز الزواج بين ذكرين أو بين انثيين ومنها ما حرمه أو أهمل ذكره فقد قضت المحاكم في أمريكا بالزواج بين الذكور وأباح مجلس العموم البريطاني اللواط، واعتبره عملا شرعيا وهكذا فإن ممارسة الإرادة في كل ما هو من شؤون الفرد الذاتية فله أن يمارسها دون ضغط أو إكراه.
خامسا: الحريات النقابية:
كما أنها أجازت الحريات النقابية فإنها حين أجازت حرية التملك كان من البديهي أن يحيق الظلم والتعسف ما في المجتمع من عمال وفلاحين
وموظفين ولما كان القانون قد أعطى لصاحب العمل حق التصرف بماله وأملاكه ولو على حساب العمال والفلاحين والإجراء والموظفين، لهذا فقد عمد القانون لاجازة المجتمع العمالي، فأجاز تشكيل النقابات ومنحها حقوقا تستطيع مباشرتها لتقف بوجه الجشع الرأسمالي، والحفاظ أو الحصول على ما يرونه هم أنه حق لهم.
سادسا إجازة الاتحادات الطلابية:
بل بلغ الحال بها إجازة الاتحادات الطلابية للوقوف بوجه الهيئات والمؤسسات التي تقوم على رعايتهم، ومنحت هذه الاتحادات من الحقوق مثل ما منحت لاتحادات العمال والنقابات بل واعتبرت أن هذه الاتحادات والنقابات عون لها وسند في تحقيق ما تقوم عليه.
هذه لمحة خاطفة عن ما تبقى مما يسمى حرية أو حريات بل هذا ما تبقى مما يسمى ممارسة الإرادة دون ضغط أو إكراه أو تهديد، وهذا ما يتصوره الناس أنه الحرية وأنه الممارسة الحقيقية للإرادة مع أنها لا تزيد عن كونها تقيدا بأحكام النظم والقوانين التي تطبق في بلد ما من بلدان العالم.
وتتفاوت هذه الحرية أي هذه الممارسة بتفاوت النظم والقوانين واختلافاتها-وتتفاوت هذه النظم والقوانين بتفاوت واختلاف القواعد الأصولية والأسس التي يبني عليها المشرعون ما يصنعون من نظم وقوانين بالإضافة إلى التفاوت بين عقلياتهم ونفسياتهم.