لقد ثبّت الله عزّ وجل في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أنّ للجهاد مكانة عليا فهو التجارة الرابحة مع الله عز وجل، وثبّت أنّ الشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون، كما وصف شعورهم بالفرحة.. كمثل وصف فرحة الصائم بفطره يوم عيده، بينما يحسب بعضنا أنّ الشعور بها مدعاة للخجل، والواقع أنّها -إن كانت على ما يرضي الله تعالى- فقد ينالنا من خلالها بعضُ ما يستبشر به أولئك الشهداء الأبرار، كما وصفهم ربّ العزّة بقوله: ((فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون)).
إن مشكلتنا الأكبر ليست فيمن سقط ويسقط من الشهداء في ساحة من ساحات الدفاع عـن هذه الأمة ودينها وأرضها ومستقبلها، فروح الشهيد تمضي إلى عليّين ويجد من الجزاء ما تصبح معه الدنيا بما فيها ومن فيها أصغر شأنا من أن تستحق الحديث عنها.. المشكلة ليست مشكلة "الشهيد" بل هي مشكلة من لا يزال من الأحياء منّا، ويأبى أن يستوعب ما تعنيه ظاهرة الاستعداد للشهادة والإقبال عليها، كما يأبى أن يستوعب حتى الآن، أنّ من الأسباب الحاسمة لسقوطنا في وهدة الانحطاط والتخلّف وفي وهدة التسليم والتراجع، هو ما أصاب معظمنا من "الوَهْن" الذي عرّفه الحديث النبوي الشريف بقوله صلى الله عليه وسلم: حبّ الدنيا وكراهية الموت.
إنّ أمّة المسلمين بدأت تحيا من جديد، لأنّه أصبح يوجد فيها من هو على استعداد للشهادة.
ليس الشهيد بالخاسر إن صدقت نيته، ولا ذوو الشهيد بالخاسرين ما التزموا الصبر إيمانا واحتسابا، ولقد رأينا على ذلك شواهد نابضة بالحياة، كما نعلم أنّ الشهيد يجد الجزاء الأوفى، وأنّ الإسلام محفوظ بوعد من رب العالمين فلن يضيع، وأنّ أرض الإسلام ولا سيّما الأرض المباركة حول المسجد الأقصى، ستتحرر قطعا، آجلا أو عاجلا، وفق وعـد من الله لا ريب فيه، فلا يتطرّق إلى القلب مثقال حبّة من خردل من الشكّ في ذلك، ولكن الخاسر هو من لا يضع نفسه على طريق الأخذ بالأسباب، ليساهم في تحقيق وعد الله على يديه، فإن صنع فقد نجا، سواء وافته المنية قبل رؤية الفتح أو النصر.. أمّا إن لم يصنع فقد باء بالخسران، حتى وإن ساد الإسلام من جديد وعادت الأرض والحقوق إلى أهلها، ما دام لم يسهم في ذلك!..
يبدّل الله من حال إلى حال
لا يسقط في حبائل التيئيس من يرى أوضاع المسلمين اليوم.. فليقارن بين ما كانت عليه قبل جيل واحد وما أصبحت عليه اليوم، ليبصر بوضوح إلى أين نتحرّك..
قبل جيل واحد.. كان أحدنا إذا ذكر شعوب قفقاسيا وتركستان والبلقان –على سبيل المثال- وذكر أنّها جزء من ديار المسلمين، أثار بكلامه الاستهزاء والسخرية به، فتلك الشعوب في نظر الساخرين آنذاك كانت في حكم "الميتة"، كانت كذلك في نظر كثير من المسلمين الذين تعلّقوا بأذيال الشرق والغرب وعلمانيته على اختلاف مشاربها، بل وفي نظر كثير من الملتزمين بدينهم من المسلمين.. ولكن الآن، وبعد جيل كامـل، أصبح أولئك يتساءلون من أين ظهر الإسلام من جديد، وما السبيل إلى الحيلولة بين الصحوة الإسلامية وبين المسلمين في تلك الديار ما بين بخارى وطشقند وجروزني وسراييفو؟..
ومثال آخر.. قبل جيل واحد كان كثير من أصحاب الأقلام الإسلامية يجدون على إنتاج أقلامهم ما يصل بهم إلى حبل المشنقة أو غياهب السجن، فهل يوجد في الوقت الحاضر ما هو أوسع انتشارا وأعمق جذورا ممّا نسمّيه الصحوة الإسلامية وقد شملت مختلف الفئات ومختلف الأعمار من الرجال ومن النساء على السواء؟..
لقد كان من يعمل للإسلام قبل جيل واحد يجد الحرب على الإسلام بمختلف أشكالها داخل حدود بلاد المسلمين نفسها، ولا يكاد يجـد من يشعر به على المستوى الشعبي إلاّ قليلا .. رغم ذلك فاليوم يتسابق حتى أولئك الذين يحاربون الإسلام وراء ستار، إلى رفع رايته والحديث بلسانه، لإدراكهم، أنّهم لن يجدوا على المستوى الشعبي تجاوبا.. إلاّ من خلال الموقف الإسلامي أو الذي يرتدي عباءة الإسلام.. ولو زورا!..
قبل جيل واحد، كان الدعاة إلى الإسلام هم المتّهمين في قضية المرأة، أما الآن فقد باتت المرأة المسلمة نفسها، المتعلّمة المحجبة، والعاملة المحجبة، والموظفة المحجبة، تلقى العنت وهي تدافع بنفسها عن حريتها الدينية الإسلامية وعن التزامها الديني الإسلامي، وهذا في عقر تلك الأقطار التي تبنّت العلمانية قبل سواها، وحاربت الإسلام أكثر من سواها.
الأمّة بخير.. وقضايا الأمة على الطريق الصحيح، ولكن لا يخفى علينا في الوقت نفسه أنّ اللون المأساوي هو الذي يغلب حتى الآن على مجرى الأحداث في معظم هذه القضايا، ولكن.. من أراد التعبير عن "الإشفاق" تجاه الضحايا، فقد آن الأوان أن يدرك أنّ المشكلة لا تكمن في "مشاعر الضحايا وذويهم ومصيرهم" بل تكمن في أنّه لا يزال يوجد في صفوف المسلمين، من يكتفي تجاه الضحايا بموقف الإشفاق أو التضامن عن بعد، ولا يحوّل هذا الموقف إلى "حياة" جديدة تصبّ في صالح القضية المعنية بتضحيات أولئك الضحايا، فيتحرّك هو من أجل تلك القضية بمواقف يومية، ويحرّك هو فعاليات جديدة لصالح تلك القضية حيث يوجد من أرض المسلمين أو العالم.