خلال سنوات الدراسات المعمقة كان أستاذنا جعفر الكتاني يمنعنا كليا من الاستشهاد بأي قول أثناء إعادة قراءة أي نص أدبي، وكان يقول بأن هدفه تخليصنا من أي أثر خارجي للقراءات الأخرى كي نصدح بأصواتنا لا باستعارة أصوات غيرنا...
في الفترة الأخيرة أصبح رأي هذا الأستاذ الجليل يلح على تفكيري في كل الأوقات، وذلك بسبب ما يعيشه النقد الأدبي من أوضاع مزرية في مجمل الإصدارات، مما يدعو إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم التي لاتخدم العملية الإبداعية بقدر ما تعرقلها.
كثيرون وعوا مسألة استعصاء النص الأدبي على أية قراءة أحادية مهما اكتملت رؤيتها، وأصبحوا مقتنعين بأن النص يحتمل عدة قراءات وتأويلات، ومع هذا لا زلنا نصطدم مع من يعتقد نفسه وصيا على النقد، ويقف مستعرضا أقوال البنيويين وكأنها قرآن منزل لا يحتمل التمحيص والمساءلة. والغريب أنهم عندما يقفون أمام ما يفند مزاعمهم يرضخون ويسطرون بنود قراءة مغايرة ولكن بشكل مستقل، أي ألا يقوم بها شخص واحد !!!!!
إن النقد قراءة بعدية أو قراءة على قراءة تنتجها ظروف معرفية وإنسانية مغايرة وخاصة.. يجب مراعاتها أثناء اختيار المنهج قصد الابتعاد عن الاسقاطات والتأويلات الخاطئة، بمعنى آخر، على الناقد أن يكون أمينا في المحافظة على روح النص وانتماءه الوجداني ليوصل إلى المتلقي الجوانب المسكوت عنها من طرف المبدع والتي تختلف مقدرة المتلقي في الإمساك بها بحسب حمولاته الفكرية والمعرفية....
وعلى الناقد أن يتخلص من عقدة التعالي ومطالبة المبدع بالتقيد بقواعد تحد انطلاقه، ذلك لأن الأديب لا يفكر في ضوابط النقد وهو يخترق الصمت بلغة الأدب محاكيا الحياة بدل الاكتفاء بعيشها...فالنصوص الأدبية عبارة عن حمم تقذفها الذات المبدعة دون التفكير في حندقتها أو احتوائها في إطار معين، وهذه الحالة قد أعطت زخما للعملية الإبداعية فتطورت أساليب الكتابة وقامت الثورة على التصنيف بحيث يتداخل الشعري بالنثري وتتداخل الأجناس الأدبية
بشكل لافت يضاهي تعقيدات الحياة العامة وعبثيتها...
والنقد مطالب بمواكبة هذه الطفرة والبحث عن الاحتمالات الممكنة والمنافذ التي تخدم هذه الحركية، وهو لن يستطيع ذلك إلا بإيمانه بعجلة الزمن التي لا تقف عند نقطة معينة وإنما تستمر في دورانها بشكل أسرع كلما امتد الزمن.
إن النسق العام الذي تسير فيه الدراسات النقدية بالعالم العربي على الخصوص يدعو للقلق، فمع احترامي للنقاد إلا أنني لا أجد ناقدا حقيقيا بالمعنى الصحيح لمصطلح "ناقد" ذلك أن الموجودين هم مجرد صدى لنقاد غربيين أنتجوا قراءات ناجعة لنصوص مغايرة قد تنفع في فك طلاسم بعض جوانب النصوص العربية، ولكنها عاجزة عن الإحاطة الشاملة الكلية بالفكر الذي أبدعها...
لذا، يجب على الناقد أن يحاول إنتاج نقد بدل الاكتفاء بإعادة إنتاجه على ضوء ما توصل إليه غيره...فهو في هذه الحالة مجرد قارئ وشارح ليس إلا. فليس بناقد من يطبق المناهج الحديثة بحذافيرها ويحاول تطويعها لتلائم النصوص العربية؛ لأنه لا يفسر النصوص على ضوء الواقع الذي أفرزها وإنما بإقحامها في خانات مدارس بعينها ووفق مذاهب نقدية قد تجاوزها أصحابها ... فهل بهذا نخدم النقد والإبداع؟؟
كثيرون يرفضون هذا الكلام ولكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون أن هذا الموضوع لا يحتمل التأجيل لأن المنطق يدعونا إلى ضرورة التفكير في النهوض بالنقد بكيفية تواكب مسيرة الإبداع ولا تسيجها أو تسيبها ... وبدل الهجوم على النص الأدبي بدعوى عدم انضباطه لقواعد هي نتاج قراءة مستوحاة من زمن مغاير وأصبحت متجاوزة بفعل التطور، لا بد من التفكير العقلاني لاحتواء النصوص الجديدة واكتشاف إطار مناسب لها قبل أن تفرض نفسها وتتجاوز هذا النقد وتجعله بلا جدوى...ولعل ما ووجهت به قصيدة النثر وقبلها قصيدة التفعيلة وكيف انتصرتا في الأخير يؤيد هذا الطرح.. وعليه، لا يجب رفض نص لمجرد خروجه عن المألوف، ألسنا مؤهلين لإنتاج قراءة موازية؟؟ ليس قراءة من عدم بل قراءة تحتكم لمجموع القيم المتعارف عليها كما تأخذ بعين الاعتبار الجدة والابتكار...
ولو تخلص النقد من لعب دور الوصي واختار متابعة التطور الطارئ على العملية الإبداعية سيغني الأدب باكتشاف مواضع الإبداع والتحكم في إيجاد مواقع لتصنيفها، لهذا لا بد أن تكون العلاقة بين المبدع والناقد سجالية لأن الأديب ليس مطالبا بتطبيق آليات النقد وإنما الانتصار لموهبته لابتكار نص قابل لإنتاج قراءات متعددة وبمفاهيم متجددة ...
إن الأزمة الحقيقية التي يعانيها الدرس الأدبي تكمن أساسا في انفصال النقد وبطء حركته مقارنة بوتيرة الإبداع المتسارعة، ويزيد من حدة تقوقع النقد سيادة العلاقات القائمة على المحسوبية والمجاملات، كما أن الأوصياء قد أفسدوا الساحة الأدبية بتدخلاتهم السافرة لفائدة بعض على حساب بعض آخر لانتماءاتهم الحزبية أو لعلاقات أخرى مما حدا بأدباء كثيرين إلى تطليق الحياة الثقافية العامة واعتزالها موثرين اللجوء إلى مدوناتهم على شبكة الأنترنيت لما تتيحه من هامش أكبر للتحرك وإبقائهم في مأمن من عصا الأوصياء والمتنفذين وتكالبهم الذي تقوده الذاتية البحتة ....وكم من مواقع ومنتديات أدبية مثمرة أنتجت نصوصا إبداعية راقية على الأنترنيت...
لابد من توفر الموضوعية في العملية النقدية واحترام الآخر وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة؛ لأن ما يتصور القارئ أنه يمتلك حقيقته، يمكن تأويله وتفسيره من زوايا مختلفة تقود إلى استنباطات مغايرة، لأننا لسنا أمام معادلة رياضية، بل أمام شفرات محملة برسائل عدة كل واحدة منها موجهة من ذات تتحدث بلغات وأصوات متعددة بتعدد تشعبات هذه الحياة وتقلباتها.. لذلك لا ينفع الحكم على النص بالحقيقة بل بما يتيحه المجاز من إمكانيات مذهلة للإبحار بين ثنايا الذات المبدعة لسبر أغوارها المتفاعلة مع الإيقاع الخارجي للحياة المضطربة والمتضاربة.
فالحياة الحديثة أصبحت أكثر تعقيدا وإبهاما مما جعل محاكاتها صعبة وجعل بالتالي أدوات التعبير عن تناقضاتها وسرعتها تتطور باستمرار وتأخذ صورا ومسارات متشعبة، فالكاتب أحيانا لا يستطيع استيعاب مظاهر طارئة ومستجدة يفترض أن يواجهها...فكيف ستسعفه الكتابة لنقل مشاعره غير المفهومة حيال ما يحدث في محيطه من مستجدات وكيف سينجح في تصوير هذا اللبس والغموض الذي لم تعرفه المراحل الزمنية السابقة ؟؟؟
هناك استثناءات قليلة جدا استطاعت فهم رسالة النقد وتعاملت مع النص الأدبي تعملا موضوعيا بمحاولة وضعه في إطاره العام والغوص في محيطه الداخلي لاستكشاف المعالم المجهولة بالتمكن من فهم الرموز المشفرة في دلالات الكلمات من بين ثنايا الحروف، ولكن مع الأسف هؤلاء النقاد، الذين يستقبلون الجديد بروية ويتجندون للبحث عن مشروعيته بدل استهجانه ونفيه خارج حدود الأجناس الأدبية الموجودة، قليلون جدا.