أرض المنفى
زغاريد ودموع
في تلك الليلة تهلل وجه أبي بالفرح فقد أصبح أبا , ففاضت عيناه بالدموع . كانت ساعات ثقيلة تلك التي مرت عليه أثناء سماعه أنين أمي وهي في مرحلة المخاض والولادة .
شعر أبي بأن الفرحة فرحتان بانجاب أمي الصبي وقيامها بالسلامة وتذكر وهو يحاول ضم المولود الصغير الى صدره صورا كثيرة, تمر أمام عيناه مسرعة , حاول كبحها والتصدي لهاو لكن المشهد لا يزال حيا قريبا , انها عشر سنوات فقط هي التي تفصله عن ذكريات طفولته وشبابه وشقاوته عشر سنوات تفصله عن ساحلها وشمسها ودفئها عشر سنوات , عن رفاقه وأصدقائه , .وأختيه اللتين بقيتا بعيدتيين مع أزواجهن .
تعالا صوت أخي بالبكاء ليقطع بذلك عذاب أبي بهذه الذكريات التي عكرت لحظات السعادة وكأن هذا الطفل الصغير يعترض على شرود أبي وتحليقه بعيدا .
الى أن جاء دور جدتي لتحمل أخي وتهدهده وترقيه وتدعي له بأن يحفظه الله من كل شر .
أما أمي المسكينة تحاول ابعاد شبح تلك الذكريات عن مخيلتها حتى لا تنزعج ويصبح الحليب سيئا لأخي الصغير .
أصبح صوت الزغاريد والتبريكات والتمنيات من قبل الأهل عاليا في تلك الغرفة الصغيرة التي ضاقت أرجائها بضجيج الأصوات ما بين فرحة ومتألمة وشاردة , فهي الغرفة الصغيرة المؤقتة لفترة قصيرة خارج الوطن , ومن ثم العودة الأكيدة للوطن .
البحث عن الرزق
بينما تحاول أمي كي الملابس وطهي طعام الغداء , حدث ضجيج وصخب على أعتاب الغرفة
رجال يحملون أواني وحاجيات تلك الغرفة لنقلها الى تلك السيارة الواقفة بالباب
لقد ضاقت سبل العيش بأبي فقرر الرحيل الى الأردن فقد وعده زوج أخته بعمل جيد هناك .
لم تستطع أمي الاعتراض بسبب صراخ أبي حين طلب منها اطفاء نار الموقد وحمل الطعام ولفه جيدا فسنتناوله فيما بعد عند وصولنا الى عمان
أمي منهكة القوى من حملها الرابع لا تقوى على المجادلة والمخاصمة فهي بذلك تبعد عن بيت أهلها في حارة اليهود في مدينة دمشق وأبيها وأمها وأخوتها وهي الكبرى التي تحمل جميع ذكرياتهم قبل الهجرة وأثنائها وبعدها مرورا بحمص وحماة قبل استقرارهم في دمشق , ذكريات تلك الأيام المحشوة في صدرها والثلج القارص في أثناء ذهابها وأيابها الى المدرسة التي ملت جدتي منها ففضلت تعليمها نشر الغسيل على الحبال الباردة وتربية أخوتها الصغار بدلا من أحرف الهجاء .
كل ذلك بدأ يترائى أمام عيناها وهي في طريقها الى مجهول أخر في بلد أخر
أيلول الأسود
بعد أن أنجبت أمي طفل وطفلة حان وقت الرحيل من جديد الى دمشق وكانت الأحداث تتسارع متوترة فكان الخيار هو العودة وبشكل مفاجئ لتبدأ مرحلة جديدة من العذاب في بيت جدي الممتلئ وأبي العاطل عن العمل وجدتي التي لم تكن راضية عن زواج أمي بأبن عمها وما زالت تكن بعض أو كثير من الكره و عدم الرضى عن زوج ابنتها الكبيرة , كان ذلك كابوسا يجعل من أمي ضعيفة فتقع بين شباك الدفاع والهجوم المستمر ما بين جدتي وأبي المثقل بالأولاد الخمسة والبحث عن العمل
ما وراء الجبل
في قرية صغيرة على أطراف مدينة دمشق الأموية استقر الحال بعد فترة مولدي , كان جوها البارد شتاءا يزيد من برودة تلك السنين وصقيع الأحداث المتتالية .
كنت كثيرة الأسئلة عما حدث وعما يجري , فلماذا معلمتي تطلق صرخاتها في وجهي الصغير وتبث كرهها لي وأنا لست مسؤلة عن وجودي فوق أرضها ووطنها ,و ذكريات أحاديث جدتي لنا عن الهجرة وأسئلة الناس لهم الكثيرة والمتعددة عن فلسطين وما لديهم في فلسطين من أواني وملابس وأغراض وهل تشبه تلك الاغراض ما يوجد في دمشق , وكأن فلسطين تقبع في المريخ وليس على بعد عدة كيلومترات
و تلك الصور ايضا التي رسمتها أمي عن معاناتهم التي جعلتهم يهيموا في الأرض على وجوههم وماوصفته من جور وظلم وقتل وتنكيل وتسميم المياه ونشر الذعر بين الناس والمجازر التي جعلتهم يرضخوا لفكرة الرحيل المؤقت ومن ثم الرجوع بعد أسبوع من تاريخه وحديث جدتي عن تنظيف الغرفة وترتيب السرير والاحتفاظ بالمفتاح لحين رجوع جدي بعد أسبوع ليمارس عمله كالمعتاد .
أسئلتي الكثيرة التي لم تنتهي لأبي عن مكان وجود فلسطين واتجاهها من موقع بيتنا هذا فكان دائما ما يقول لي أن فلسطين تقع وراء هذا الجبل
المطل على بيتنا
فكان حلم الصعود على قمة ذلك الجبل ورؤية فلسطين عن قرب يشغل مخيلتي طوال فترة تلك الطفولة المقطعة والمجزأة الأحاسيس ومشاعر الحرمان والحنق على فقدان نعمة من نعم الدنيا وهي الوطن
يتبع ..............