رابعاً: طريقة العلماء في استنباط قواعد القياس:
من الجلي أن العرب لم يصرحوا بعمل القياس في شيء من أحوال الكلم أو نظم الكلام، ولكن علماء اللسان يتتبعون موارد كلامهم، ويتعرفون أحواله؛ فإذا وجدوا في الكلم نفسها، أو تأليفها حالاً جرى عليها العرب بحيث يصح أن تكون موضع قدوة استنبطوا منها قاعدة؛ ليقاس على تلك الألفاظ المسموعة أشباهها ونظائرها.
وقد يختلفون في صحة القياس لأسباب سيأتي ذكرها في الفقرة التالية.
خامساً: أسباب اختلاف العلماء في القياس: هناك أسباب لاختلاف العلماء في صحة القياس منها:
1- أن يتوافر لدى العالِم من استقراء كلام العرب ما يكفي لتركيب قاعدة؛ فيجيز القياس، ولا يبلغ الآخر بتتبعه مقدار ما يؤخذ منه حكمٌ كلي؛ فيَقْصُر الأمر على السماع.
2- قد يستوي الفريقان، أو يتقاربان فيما عرفوه من الشواهد، ويكتفي به أحدهما في فتح باب القياس، ويستقله الآخر؛ فلا يتخطى به حد السماع.
3- قد يختلفون في القياس؛ نظراً إلى ما يقف لهم من الأحوال التي تعارض السماع؛ فالكوفيون الذين يكتفون في بعض الأقيسة بالشاهد والشاهدين - قالوا:
إن صيغ المبالغة: (فعَّال ومِفْعال وفعول) لا تعمل عمل اسم الفاعل، وأخذوا يؤلون الشواهد التي سردها البصريون مثل:
أخو الحرب لباساً إليها جلالها * وليس بولاج الخوالف iiأعقلا
واعتذروا عن عدم قبولها والتمسك بظاهرها بأن اسم الفاعل إنما عمل لشبهه بالفعل المضارع في وزنه، والصيغُ المذكورةُ لم تجئ على الوزن الذي قرب اسم الفاعل من أصله الذي هو المضارع، أخذاً بتلك الشواهد، وأبطلوا ما اعتذر به الكوفيون؛ فقالوا في جوابهم: إن المبالغة التي قوي بها المعنى في تلك الأبنية جبرت ما نقصها من الشبه في اللفظ؛ فنقابل مشابهة اسم الفاعل للمضارع في اللفظ بزيادة المعنى الذي اختصت به أبنية المبالغة؛ فتحصُل الموازنة، والتساوي في طلب العمل من غير تفاضل.
4- اختلاف أنظارهم في الشاهد أو الشواهد التي تذكر؛ ليقاس عليها؛ فيختلفون في أمانة ناقلها، أو في صحة عربية قائلها، أو في وجوه فهمها وإعرابها.
ومن لا يثق بأمانة الناقل للكلام، أو لايسلِّم أن الكلام صادر ممن ينطق بالعربية الصحيحة لا يقيم لذلك الكلام وزناً، ولا يعوِّل عليه شيء من أحكام اللسان.
وإذا تبادر إلى ذهن عالم في فهم الكلام، وإعرابه وجهٌ يفتح له السبيل لأن يستنبط منه حكماً، ويقيم منه قاعدة - فقد يتبادر إلى ذهن غيره في فهمه وإعرابه وجهٌ يطابق أصلاً من الأصول الثابتة من قبل؛ فيخالف في ذلك الحكم، ويراه خارجاً عن سنن القياس، ومبنياً على غير أساس.
سادساً: تقسيم اللغة من حيث القياس والاستعمال: قسم ان جني اللغة من حيث القياس والاستعمال، وكون الكلام في ذلك مطرداً أو شاذاً إلى أربعة أقسام، وهي:
1- مطرد في القياس والاستعمال جميعاً، وهذا هو الغاية المطلوبة، وذلك نحو: قام زيد، وضربت عمراً، ومررت بسعيد.
فالفاعل يطرد رفعه قياساً واستعمالاً، والمفعول به يطرد نصبه قياساً واستعمالاً، والمجرور يطرد جره قياساً واستعمالاً.
2- مطرد في القياس شاذ في الاستعمال: وذلك نحو الماضي من الفعل: يَذَر ويدع.
وهذا تتحامى ما تحامت العرب من ذلك، و تجري في نظيره على الواجب في أمثاله من ذلك: وذر، وودع؛ لأنهم لم يقولوها.
3- المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس: نحو قولهم: استصوبت الشيء، ولا يقال: استصبت، وكذلك استحوذ، واستنوق الجمل.
4- الشاذ في القياس والاستعمال جميعاً: وذلك كتَتْميم مفعول فيما عينه واو نحو: ثوب مصون، ومسك مَدْوُف.
وحكى البغداديون: فرس مقوود، ورجل معوود من مرضه.
وكل ذلك شاذ في القياس والاستعمال؛ فلا يسوغ القياس عليه، ولا ردُّ غيره إليه، ولا يحسن - أيضاً - استعماله فيما استعملته فيه إلا على وجه الحكاية.
قال ابن جني بعد ذلك: "واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال، وشذ عن القياس فلا بد من اتباع السمع الوارد فيه نفسه، لكنه لا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره.
ألا ترى أنك إذا سمعت: استحوذ واستصوب أدَّيتَهُما بحالهما، ولم تتجاوز ما ورد السمع فيهما إلى غيرهما؟
ألا تراك لا تقول في استقام: استقوم، ولا في استساغ: استسوغ، ولا في استباع: استبيع، ولا في أعاد: أعْود".
سابعاً: الكتب المؤلفة في القياس: اعتنى العلماء في القياس، ولعل أظهر وأكثر من اهتم به في القديم أبو الفتح ابن جني في كتابه الخصائص، حيث ضمنه آراءه في القياس، وذلك في مواضع متفرقة من الكتاب.
وكذلك السيوطي في المزهر حيث تكلم على القياس في مواضع ومنها ما ذكره في النوع الثاني عشر: معرفة المطرد والشاذ.
وكذلك المحدثون تكلموا على القياس، ويأتي في مقدمة أولئك الشيخ محمد الخضر حسين في كتابه (القياس في اللغة العربية).
ويكاد يكون أهم كتاب مفرد في هذا الباب، على صغر حجمه.
ومن أعظم الكتب المعاصرة كذلك كتاب: (ظاهرة قياس الحمل في اللغة العربية د. عبدالفتاح البجة).
ثامناً: الحاجة إلى القياس في اللغة: يقول الشيخ العلامة محمد الخضر حسين - رحمه الله - مبيناً الحاجة إلى القياس في اللغة: "وضعت اللغة ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب، ويتردد في نفسه من المعاني.
ومن البيِّن جلياً أن المعاني تبلغ في الكثرة أن تضيق عليها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لجانب كبير من المعاني ألفاظاً عيَّنها كالسماء والمطر والنبات والعلم والعقل، وتوسل للدلالة على بقيتها بمقاييس قدَّرها.
والكلم التي تصاغ على مثال هذه المقاييس معدودة في جملة ما هو عربي فصيح.
ولولا هذه المقاييس لضاقت اللغة على الناطق بها، فيقع في نقيصة العي والفهاهة، ويُكْثِر من الإشارات التي تخرج به عن حسن السمت والرزانة، ويرتكب التشابيه محاولاً بها إفادة أصل المعنى، لا كما يستعملها اليوم حليةً للمنطق، ومظهراً من مظاهر البلاغة.
ولو صح أن يضع الواضع لكل معنىً لفظاً يختص به لكان الحرج الذي تقع فيه اللغة أن تضيق المجلدات الضخمة عن تدوينها، ويتعذر على البشر حفظ ما يكفي للمحاورات على اختلاف فنونها، وتباين وجوهها.
فالقياس طريق يسهل به القيام على اللغة، ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والجمل دون أن تقرع سمعه من قبل، أو يحتاج في الوثوق من صحة عربيتها إلى مطالعة كتب اللغة أو الدواوين الجامعة لمنثور العرب ومنظومها.
وقد يخطر على بالك أن في اللغة العربية ألفاظاً مترادفات بالغات في الكثرة أن يكون للمعنى الواحد عشرات أو مئات من الأسماء، وتودُّ لو صرف الواضع هذه المترادفات إلى جانب من المعاني التي تركها لحكم القياس.
وجواب هذا أن للمترادفات في بلاغة القول، ورصانة تأليف الكلم، وإقامة وزن الشعر، وتمكين القافية - فضلاً لا يغني غيرها فيه غَناءها؛ فهي من مفاخر اللغة، ودلائل سعة بيانها؛ فالمترادفات تسد وجوهاً من الحاجة غير الوجوه التي يسدها القياس، ولا ننسى أن الكثير من هذه المترادفات قد نشأ من تعدد اللغات، أو من ملاحظة اختلاف دقيق في الأحوال والصفات.
هذا وجه الحاجة إلى القياس في صيغ الكلم واشتقاقها.
ولا يخفى عليك بعد هذا وجه الحاجة إلى فتح باب القياس في نظم الكلام، وما يعرض من الكلم نحو التقديم والتأخير، والاتصال والانفصال، والإعراب والبناء، والحذف والذِكر؛ فإن تباين الأغراض، وتشعب العلوم، وتفاوت عقول المخاطبين، واختلاف أذواقهم - مما يستدعي إطلاق العنان للمتكلمين، يذهبون في البيان كل مذهب قيم، ويتعلقون منه بكل أسلوب مقبول، حتى يظهر فيهم الخطيب المصقع، والشاعر المفلق، والكاتب المبدع، والمناظر المفحم، والمحاضر الغواص على الدرر، والعلامة المجلي للمعاني الغامضة في أجمل الصور".
عاشراً: المُحْدَثون والقياس: واجهت العربية مشكلات كثيرة بسبب ما جدَّ في العصر الحديث من علوم ومصطلحات، ومذاهب ثقافية وفكرية، ومظاهر حضارية لا حصر لها؛ فعاد المُحْدَثون من علماء العربية إلى السؤال القديم: هل يجوز أن نقيس على كلام العرب؟
فمنهم من منع ذلك، ولم يأخذ به، ومنهم - وهم الأكثرية - من رأى القياس باباً جائزاً، وطريقاً حسناً من طرق تنمية اللغة، بل إن القياس يفوق التعريب، والارتجال، والترجمة.
وبعد نقاش طويل توصل المحدثون إلى قبول القياس بالشروط التي ارتأوها والتي منها:
1- وجود الضرورة أو الحاجة الملحة: فاتفقوا على أن القياس للضرورة أو الحاجة الملحة، ولمواجهة الجديد؛ فتلك دوافع مقنعة تدعو إلى القياس؛ فليست المسألة ترفاً، ولا لعباً.
2- أن يكون القياس على المطرد لا النادر.
3- أن يقوم به المجامع اللغوية، وأن يكون تحت نظر العلماء.
4- ألا يكون القياس في الأساليب؛ لأننا لسنا بحاجة إليها، وإنما يكون القياس في الصيغ كالمصادر، وأسماء الآلة وغيره في حدود الكلمات المفردة.
وفي الدلالات، كالتوسع في المدلول؛ ليعم، ويستوعب أشياء أخرى، كالخمر عندما توسعوا في مدلولها، والسيارة التي كانت تعني القافلة في القديم؛ فكان هناك خيارات أمام المجامع اللغوية، إما أن ننقل معنىً قريباً إلى قريب، فيتوسع في السيارة - مثلاً - فتُطلق على كل شيء يسير، وإما أن تؤخذ اللفظة الأجنبية؟
ومثال ذلك يقال في قياس قطار.
هذا وقد اقتصر المجمع في بعض دوراته على الأخذ بالقياس في مسائل معينة رأى مسيس الحاجة إليها؛ فكان من قراراته:
1- جعل المصدر الصناعي - وهو ما ختم بياء مشددة بعدها تاء لغير الفاعلة كالجاهلية والرهبانية - مصدراً قياسياً.
وذلك لشدة الحاجة إلى هذا المصدر في التعبير عن كثير من حقائق العلوم والفنون؛ فبناءً على ذلك قرر المجمع الإتيان بأي مصدر صناعي بإضافة الياء المشددة مثل: اشتراكية، جمهورية.
2- صياغة (فِعالة) للحرفة مثل: جزارة، برادة، نحاته.
3- كذلك (فُعال) للمرض: زُكام، صُداع، فأي مرض يجوز أن يصاغ على فعال كما صاغت العرب ما كانت تعرفه.
4- (تِفعال) للدلالة على المبالغة في الشيء والكثرة: ترحال، تجوال.
5- (مَفْعَلة): مثل: مأسدة، ومنحلة.