الإنجليز يمهدون السبل لخروج العرب :
أضرب لذلك مثلاً حادث هجرة أهل طبرية . فقد تم طبقاً لخطة مرسومة لتسليم هذه المدينة لليهود ، فإن طبرية تقطنها أكثرية من اليهود وأقلية من العرب. وقد كانت القوات البريطانية خلال المعارك الناشبة بين العرب واليهود تغض طرفها عما يقترفه اليهودي في الأحياء العربية العزلى من السلاح ، وتسهل سبيل وصول المدد والنجدات إلى اليهود ، وتحول دون وصول المدد والنجدات إلى العرب، مما هيأ لها أن تتدخل وتصل على إجلاء العرب عن المدينة تاركين وراءهم جميع ما يملكون ، بحجة أنهم أقلية يخشى عليها من الأكثرية اليهودية!
والمؤامرة في هذا الحادث مفضوحة ، والتحيز ظاهر. فقد كان في وسع القوات البريطانية أن لا تحول دون وصول النجدات إلى العرب كما تحل دون وصول النجدات إلى اليهود ، أو على الأقل أن تحافظ عليهم وعلى ممتلكاتهم كما حافظت على اليهود في مدينة القدس القديمة وغيرها. فقد كان هؤلاء في وضع أضعف بكثير من وضع العرب في طبرية ، وظلت القوات البريطانية باسطة حمايتها عليهم، توصل إليهم الطعام والماء والسلاح والنجدات إلى أن انسحبت من فلسطين .
ومثل ذلك حدث في المذابح التي اقترفها اليهود في القرى العربية الضعيفة بين سمع القوات البريطانية وبصرها . كمذابح قرى "دير ياسين" و"ناصر الدين" و"حواسه" و"عليوط" و"سكرير" و" الدوايمة وغيرها .
ومن الجدير بالذكر أن معظم الفظائع الوحشية في هذه القرى ارتكبتها عصابتا أرغون زفاي ليومي وشترن، وأكثر أفرادهما من اليهود المتدينين ورجال الدين الربانيين والحاخامين، المعروفين بفرط تعصبهم وشدة أحقادهم ، فكانوا يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة . ويبقرون بطون الحوامل ويخرجون الأجنة منها برؤوس حرابهم ، زاعمين أن هذا أمر إله إسرائيل الذي أمر شعب إسرائيل حين فتح أريحا "أن يقتل بحد السيف كل ما في المدينة من رجل وامرأة ، من طفل وشيخ ، حتى البقر والغنم والحمير، وأن يحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها ، كما جاء في الإصحاحين السادس والسابع من سفر يشوع .
المؤامرة الإنجليزية على تسليم حيفا لليهود :
أما حيفا فقد كانت كارثتها من أبرز مظاهر تحيز الإنجليز لليهود وتآمرهم معهم ، فقد أعلنت سلطة الانتداب البريطاني أن لبريطانيا مصالح حيوية في حيفا، وأنها لن تتخلى إلا بعد شهر أغسطس 1948 أي بعد انتهاء الانتداب بثلاثة أشهر ونصف شهر ، وعلى هذا منعت العرب من إقامة المراكز المحصنة داخل المدينة ، وحظرت عليهم الوصول إلى أماكن معينة، في الحين الذي كان اليهود فيه يتحصنون ويتركزون ويجوبون كافة المواقع دون حظر، حتى إذا أتموا تسلحهم واستكملوا استعدادهم أعلنت سلطة الانتداب فجأة عدولها عن التمسك بحيفا واضطرارها لإخلائها ! وحينئذ ظهر أن اليهود قد تسلموا ما كان بيد الإنجليز من المعسكرات ذات الشأن، والأماكن المحصنة، والمواقع المشرفة على أحياء حيفا كلها، مما سبب كارثة استيلاء قوات اليهود المسلحة عليها، واضطرار أهلها العرب للجلاء عنها بعد وقائع دامية، وبعد ما متع الإنجليز وصول النجدات إليهم، تاركين وراءهم كل ما يملكون أيضاً . وعندئذ فقط ظهرت رقة شعور القوات البريطانية، ففتحت أبواب ميناء حيفا وجمعت ما فيها من السفن وجعلت تدعو العرب إلى الرحيل وتحملهم عليها.. وكذلك أخذ الفيلق العربي – أي جيش الجنرال جلوب – ينقل العرب في سياراته كما فعل في طيرة حيفا وجبع وغيرها ، وكما نقل قبل ذلك أهالي طبرية وبيسان بسياراته إلى شرق الأردن . فعل كل ذلك تسهيلاً لهجرة العرب وتمكيناً لاحتلال اليهود .
واشتركت دائرة المخابرات البريطانية واليهودية في هذه المهمة بنصيب وافر وأخذت على عاتقها إشاعة الحوادث المثيرة والأخبار المضللة، ونشر الذعر بين الأهالي الآمنين من العرب، وخاصة على أثر المذابح التي اقترفها اليهود .
وكان المخابرات البريطانية وأعوانها من موظفي حكومة الانتداب أكبر الأثر فيما حدث في مدينة (يافا) من هذا القبيل أيضاً مما أدى إلى خروج أهلها العزل، والتجائهم إلى أماكن أخرى من فلسطين أو إلى الأقطار العربية المجاورة .
أما في القدس الجديدة فقد منعت القوات البريطانية المجاهدين الفلسطينيين من المرور عبر مناطق السلامة التي كان جنودهم يحتلونها ثم لم يلبثوا أن سلموا تلك المناطق – مع معسكر العلمين الكبير الواقع جنوب القدس – إلى قوات الهاجانا اليهودية في 13و14 مايو 1948م وبذلك أصبح اليهود يسيطرون على القدس الجديدة ، ويتحكمون في القدس القديمة أيضاً .
كارثة اللد والرملة :
وأما كارثة اللد والرملة فقد نشأت من أن الجنرال جلوب سحب فجأة قوات الجيش الأردني التي كانت مرابطة فيهما، بعد ما جرد قوات الجهاد المقدس التي كانت مرابطة في مطار اللد ومحطة السكة الحديد وغيرهما، من سلاحها ، بحجة الهدنة الأولى، واعداً بإرجاعها بمجرد انتهاء الهدنة . ولكنه أخلف وعده عندما استأنف القتال في 9 يوليو 1948، فسقطت اللد والرملة وعشرات القرى المحيطة بهما في أيدي اليهود واضطر نحو مائة ألف من أهلها للنزوح، يضاف إليهم من لجأ إلى المدينتين المذكورتين من أهل مدينة يافا وقراها، وهم لا يقلون عن خمسين ألف نسمة أيضاً، وقد روي لي أحد رجال الدين المسيحي المحترمين أنه سمع من سيادة المونسنيور وكيل بطريرك اللاتين في فلسطين ن جلوب بعث ببرقية تهنئة لقائد الجيش اليهودي على احتلاله اللد والرملة ، ولما صادفه المونسنيور المذكور وعاتبه على برقيته، أجابه جلوب بقوله : هذه هي السياسة .
ونحن حين نعرض لذكر الجنرال جلوب باشا الإنجليزي لا نرمي إلى تجريحه شخصياً فهو يعمل لصالح أمته ويقدم لها الخدمات الجلي، ولكن اللوم يقع على بعض العرب الذين ولوه القيادة العامة الفعلية أثناء حرب فلسطين . وبعد الهدنة الثانية توالت اعتداءات اليهود على المناطق العربية ، وانسحبت قوات الدول العربية من مناطق الجليل الغربي وجنين وبعض مناطق القدس وبيت لحم والخليل والنقب والمجدل، فجلا أهلها منها تبعاً لذلك بالضرورة، ثم وقعت اتفاقية رودس، وأعقبها تسليم جيش الجنرال جلوب لليهود أراضي المثلث العربي ومساحات واسعة من مناطق القدس وبيت لحم والخليل والبحر الميت كما ذكرناه آنفاً ، فنزح عنها أهلها بعد ما عاث فيها المجرمون اليهود قتلاً وتدميراً ونهباً وسلباً .
وهكذا لم يحل ربيع عام 1949 حتى أصبح ما يقرب من مليون عربي فلسطيني مشردين من بلادهم ولاجئين إلى الأقطار العربية .