كلمة في التاريخ ..
" الشخصية التاريخية "
بهجت عبد الغني الرشيد *
إنه لا قيمة للتاريخ عندما نتاوله تناولاً ميتاً، سرداً مملاً جافاً، وتجميعاً للنصوص من بطون الكتب.. تجميعاً فقط.. بعيداً عن الواقع، ومن غير إسقاطه على ساحته لاستخلاص الفائدة منه، وتجاوز أخطائه، وفهم دروسه وعبره..
ومن ذلك تناولنا للشخصية التاريخية، فإننا نقع كثيراً في الأخطاء عندما نحاول تصوير الشخصية التاريخية تصويراً مجرداً.. مجرداً من بيئتها.. مجرداً من الظروف التي تحيط بها.. مجرداً من الحالات التي تعتري البشر.. مجرداً من تحليلاتها وفهمها للواقع والأحداث.. مجرداً من اجتهادها.. وكأن الشخصية هي عنصر فرد ومستقل عما حوله.
فبذلك نصدر على هذه الشخصية أو تلك حكماً سريعاً دون الإلمام بكثير من العوامل التي ترتبط بها.. العوامل التي تتأثر بها أو تؤثر هي فيها..
ومن ثم فان الكلام عن شخصية تاريخية ما من غير الغوص في أعماقها وأعماق واقعها، من غير قتل لواقعها بحثاً وتحليلاً.. هذا الكلام يعتبر ناقصاً أبتر، ولربما يتحول فقط إلى تهم وأكاذيب وقصص تنسج حول الشخصية لا تمت بصلة إلى الواقع في شيء، لأن التاريخ لا يقف عند الظواهر فقط، بل يتعدى ذلك إلى الباطن حيث تكمن القوى الداخلية..
ولأن التاريخ ـ كما يقول سيد قطب ـ ليس هو الحوادث، إنما هو تفسير هذه الحوادث، واهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدة واحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان (1) .
فيا ترى.. كم من الأخطاء ارتكبنا، لعدم معرفتنا الطريقة الصحيحة لدراسة التاريخ أو كتابته ؟ وكم من الشخصيات ظلمنا عبر التاريخ؟ لا لشيء، سوى لسوء فهم.
فلو أخذنا مثلاً في تاريخنا الإسلامي، ما وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية ( رضي الله عنهما )، من مواقف وحروب وأزمات، لرأينا مجالاً واسعاً وفسيحاً للطعن والاتهام واللعن.. لماذا؟
لأننا لم نعرف كيف نتناول التاريخ دراسة وتحليلاً، بل أخذنا الغث والسمين مما كتب.. هكذا.. كما هو، فيعني كتابة التاريخ حينها ببساطة أن تصفّ أمامك مجموعة من الكتب والمصنفات، ثم تأخذ من كلٍ فقرة، وتثبت على الهامش المصادر، ثم السلام..
إن هؤلاء الكتّاب كمن يحكم على مباراة لكرة القدم، ولكن وهو جالس على المدرجات.. وما أسهل الحكم من المدرجات.. بل ينبغي للكاتب أن يقتحم صميم الأحداث، وأن يعيش مع الشخصيات بشعوره ووجدانه وفكره وخياله، وأن لا يقف هناك بعيداً خارج الأسوار ينظر، بل لا بد من تجاوز الجدار المنظور القاتم الذي يفصلنا عن تاريخنا الحقيقي، ويحصرنا في زاوية ضيقة حرجة..
ولذلك فإن تاريخنا الإسلامي بحاجة ماسة إلى طبقة جديدة من المؤرخين، يعيدون تحليل هذا التاريخ وعرضه بكل حيويته وتدفقه، وعناصره الظاهرة والباطنة، مما سيتيح بلا شك، فهماً أعمق لهذا التاريخ (2) .
وإذا وقفنا عند موقف تحدث القرآن الكريم عنه، لاكتشفنا أن الشخصية لا تتأتى تصرفاتها وأفعالها وأقوالها من فراغ.. وهي قصة نوح ( عليه السلام ).. ودعنا نتساءل: ماذا لو أننا قرأنا السورة من الآية التي يدعو فيها نوح ( عليه السلام ) على قومه بالعذاب والهلاك؟ ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) ) .
لماذا يدعو نوح ( عليه السلام ) بهذا الدعاء على قومه؟ أليس هذا الدعاء فيه شدة وقسوة؟ ثم أليس من واجب الأنبياء دعوة الناس إلى التوحيد والإيمان وليس الدعاء عليهم بالعذاب والهلاك والدمار؟..
إن كل هذه التساؤلات تقفز إلى الذهن عندما لا نقرأ قصة نوح ( عليه السلام ) من البداية.. ولا ندرس أخلاق قومه وطبائعهم.. ولا نقف عند دعوة نوح ( عليه السلام ) لهم.. ومدى المعاناة والصعوبات التي واجهته في هذه الدعوة..
إن الدارس الحقيقي لا يسأل لماذا دعا نوح ( عليه السلام ) على قومه، بل يكون سؤاله ما هي الأسباب التي أدت إلى هذه الدعوة؟..
إن نوح ( عليه السلام ) لا ينظر إلى الواقع من فوق، فيرى كفراً وفسقاً وعصياناً، ومن ثَم يرفع يديه إلى السماء ويدعو على قومه..
إن القرآن الكريم لا ينقل إلينا قصة نوح ( عليه السلام ) من الأخير، وإنما ينقل أولاً حالة القوم الذي عاش فيها، عاش بينهم، نزل إليهم، دعاهم إلى الله تعالى، ولنتدبر هذه الآيات الكريمات..
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)) .
" فنوح ( عليه السلام ) يدعو ها هنا من موقع الغضب والانفعال على قوم دعاهم للإيمان تسعمائة وخمسين سنة، فلم يستجيبوا.. ومن ثم جاء رد الفعل عنيفاً قاسياً.. وتعلم أن لكل فعل رد فعل يساويه في القوة، ويخالفه في الاتجاه.. وتصور كيف يكون غضب تسعمائة وخمسين سنة من دعوة أناس كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم كي لا يتسرب إلى عقولهم، قبس من نور الكلمة التي جاء بها النبي الدؤوب " (3) .
ونحن إذ نتكلم عن النبي نوح ( عليه السلام )، وعن دعوته على قومه ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) )، رب سائل يسأل: ما الذي أعلم نوحاً ( عليه السلام ) بأن أولاد هؤلاء الكفار لن يؤمنوا مثل آبائهم، فجاء الدعاء عليهم جميعاً، وهل يحمل الأبناء وزر الآباء؟
ويذهب الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل إلى (( إن نوحاً يدعو من موقف الانفعال، والقرآن يحدثنا بأمانة عن هذا الدعاء.. على سبيل الإخبار، دون أن يبين ولو تلميحاً، خطأ أو صواب هذا الدعاء، لأن هذه مسألة أخرى، ما دام القرآن الكريم في هذه السورة بصدد عرض تاريخي مكثف لنبوة نوح.. والإخبار شيء، واتخاذ موقف إزاء الحدث التاريخي، أو الرأي، شيء آخر )) (4) .
وهذا تفسير عميق للأستاذ الدكتور، ولكن ألا يكون الجواب أن الله تعالى كان قد أوحى إلى نوح ( عليه السلام ) بأن الآباء من قومك وأبناءهم لن يؤمنوا لك ( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) ) سورة هود. فجاء دعاء نوح متناسقاً ومتحداً مع الوحي الإلهي..
وعلى كل، فإنه وجب علينا أن نعلم أن دراسة الشخصية مجرداً من العوامل الخارجية والداخلية التي تحيط بها خطأ كبير يجب تجنبه، ولذا لزم علينا الوقوف طويلاً، والتفكير ملياً، عندما نريد تناول شخصية تاريخية معينة، ووجب علينا التخلص كذلك من كافة الجواذب أياً كانت، ومن كل شد عصبي، ومن كل هوى، ومن كل حكم مسبق تفرضه العادة أو التقليد الأعمى..
إذن.. لا بد من المضي قدماً نحو دراسة جديدة .. واقعية تحليلية .. متجردة .. للتاريخ ، ولشخصيات التاريخ الإسلامي
بشكل خاص
.
_________________________
الهوامش :
* أول موقع نشرت فيه هذا المقال كان في ( موقع التاريخ ) :
http://www.altareekh.com/Pages/Subjects/Default.aspx?id=643&cat_id=65
(1) سيد قطب، في التاريخ فكرة ومنهاج، ط3، بيروت، 1979، ص37.
(2) عماد الدين خليل، ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز، الطبعة الثانية، بيروت، 1391، ص14.
(3) الدكتور عماد الدين خليل، مؤشرات إسلامية في زمن السرعة ( نوح عليه السلام.. وبداهات الوراثة )، ص 74.
(4) المصدر نفسه، ص76 ـ 76.