القيادة الفكرية في الإسلام
تنشأ بين الناس كلما انحط الفكر رابطة الوطن ، وذلك بحكم عيشهم في أرض واحدة والتصاقهم بها ، فتأخذهم غريزة البقاء بالدفاع عن النفس ، وتحملهم على الدفاع عن البلد الذي يعيشون فيه ، والأرض التي يعيشون عليها ، ومن هنا تأتي الرابطة الوطنية ، وهي أقل الروابط قوةً وأكثرها انخفاضاً ، وهي موجودة في الحيوان والطير كما هي موجودة فـي الإنسان ، وتأخذ دائماً المظهر العاطفي . وهي تلزم في حالة اعتداء أجنبي على الوطن بمهاجمته أو الاستيلاء عليه ، ولا شأن لها في حالة سلامة الوطن من الاعتداء وإذا رد الأجنبي عن الوطن أو أخرج منه انتهى عملها ، ولذلك كانت رابطةً منخفضةً.
وحين يكون الفكر ضيقاً تنشأ بين الناس رابطة قومية ، وهي الرابطة العائلية ولكن بشكل أوسع ، وذلك أن الإنسان تتأصل فيه غريزة البقاء فيوجد عنده حب السيادة ، وهي في الإنسان المنخفض فكرياً فردية ، وإذا نما وعيه يتسع حب السيادة لديه ، فيري سيادة عائلته وأسرته ، ثم يتسع باتساع الأفق ونمو الإدراك فيرى سيادة قومه في وطنه أولاً ثم يرى عند تحقق سيادة قومه في وطنه سيادتهم على غيرهم ، ولذلك تنشأ عن هذه الناحية مخاصمات محلية بين الأفراد في الأسرة على سيادتها ، حتى إذا استقرت السيادة في هذه الأسرة لأحدها بانتصاره على غيره انتقلت إلى مخاصمات بين هذه الأسرة وبين غيرها من الأسر على السيادة ، حتى تستقر السيادة على القوم لأسرة أو لمجموعة من الناس من أسر مختلفة ، ثم تنشأ المخاصمات بين هؤلاء القوم وغيرهم على السيادة والارتفاع في معترك الحياة . ولذلك تغلب العصبية على أصحاب هذه الرابطة ، ويغلب عليهم الهوى ونصرة بعضهم على غيرهم . ولذلك كانت رابطة غير إنسانية ، وتظل هذه الرابطة عرضة للمخاصمات الداخلية إن لم تشغل عنها بالمخاصمات الخارجية .
وعلى ذلك فالرابطة الوطنية رابطة فاسدة لثلاثة أسباب : أولاً - لأنها رابطة منخفضة لا تنفع لأن تربط الإنسان بالإنسان حين يسير في طريق النـهـوض . وثانياً – لأنها رابطة عاطفية تنشأ عن غريزة البقاء بالدفاع عن النفس والرابطة العاطفية عرضةً للتغيير والتبديل ، فـلا تصلح للربط الدائمي بين الإنسان والإنسان . وثالثا – لأنها رابطة مؤقتة توجد في حالة الدفاع ، أمـا في حالة الاستقرار – وهي الحالة الأصلية للإنسان – فلا وجود لها ولذلك لا تصلح لأن تكون رابطةً بين بني الإنسان .
وكذلك الرابطة القومية فاسدة لثلاث أسباب : أولاً – لأنها رابطة قبليةً ولا تصلح لأن تربط الإنسان بالإنسان حين يسير في طريق النهوض . وثانياً – لأنها رابطة عاطفية تنشأ عن غريزة البقاء ، فيوجد منها حب السيادة . وثالثاً – لأنها رابطة غير إنسانية ، إذ تسبب الخصومات بين الناس على السيادة . ولذلك لا تصلح لأن تكون رابطة بين بني الإنسان .
ومن الروابط الفاسدة التي قد يتوهم وجودهـا رابطة بين الناس الرابطة المصلحية ، والرابطة الروحية التي ليس لها نظام ينبثق عنها . أما الرابطة المصلحية فهي رابطة مؤقتة ولا تصلح لأن تربط بني الإنسان ، لأنها عرضةً للمساومة على مصالح اكبر منها ، فتفقد وجودها في حالة ترجيح المصلحة . ولأنها إذا تباينت المصلحة تنتهي ، وتفصل الناس عن بعضهم ولأنها تنتهي حين تتم هذه المصالح ولذلك كانت رابطة خطرة على أهلها .
وأما الرابطة الروحية بلا نظام ينبثق عنها ، فإنها تظهر في حالة التدين ، ولا تظهر في معترك الحياة . ولذلك كانت رابطةً جزئيةً غير عملية ، ولا تصلح لأن تكون رابطة بين الناس في شئون الحياة ومن هنا لم تصلح العقيدة النصرانية لأن تكون رابطة بين الشعوب الأوربية مع أنها كلها تعتنقها ، لأنها رابطة روحية لا نظام لها .
ولذلك لا تصلح جميع الروابط السابقة لأن تربط الإنسان بالإنسان في الحياة حين يسير في طريق النهوض . والرابطة الصحيحة لربط بني الإنسان في الحياة هي رابطة العقيدة العقلية التي ينبثق عنها نظام . وهذه هي الرابطة المبدئية .
والمبدأ عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام . أما العقيدة فهي فكرة كلية عن الكون والإنسان والحيـاة ، وعما قبل هذه الحياة الدنيا ، وعما بعدها وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها . وأما النظام المنبثق عن هـذه العقيدة فهو معالجات لمشاكل الإنسان ، وبيان لكيفية تنفيذ المعالجات ، والمحافظة على العقيدة ، وحمل المبدأ . فكان بيان الكيفية للتنفيذ وللمحـافظة ولحـمل الدعـوة : طريقة ، وما عدا ذلك وهو العقيدة والمعالجات : فكرة ، ومن هنا كان المبدأ فكرة وطريقة .
والمبدأ لا بد أن ينشأ في ذهن شخص ، إما بوحي الله له به وأمره بتبليغه . وإما بعبقرية تشرق في ذلك الشخص . أما المبدأ الذي ينشأ في ذهن إنسان بوحي الله له به فهو المبدأ الصحيح ، لأنه من خالق الكون والإنسان والحياة ، وهو الله . فهو مبدأ قطعي . وأما المبدأ الذي ينشأ في ذهن شخص بعبقرية تشرق فيه فهو مبدأ باطل ، لأنه ناشئ عن عقل محدود يعجز عن الإحاطة بالوجود ، ولأن فهم الإنسان للتنظيم عرضةً للتفاوت والاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها مما ينتج النظام المتناقض المؤدي إلى شقاء الإنسان . لذلك كان المبدأ الذي ينشأ في ذهن شخص باطلاً في عقيدته و في نظامه الذي ينبثق عنها .
وعلى ذلك كان الأساس في المبدأ هو الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة ، وكانت الطريقة التي تجعل المبدأ موجوداً منفذاً في معترك الحياة أمراً لازماً لهذه الفكرة حتى يوجد المبدأ . أما كون الفكرة الكلية أساساً فإنها هي العقيدة ، وهي القاعدة الفكرية ، وهي القيادة الفكرية ، وعلى أساسها يتعين اتجاه الإنسان الفكري ووجهة نظره في الحياة ، وعليها تبنى جميع الأفكار ، وعنها تنبثق جميع معالجات مشاكل الحياة ، وأما كون الطريقة أمراً لازماً ، فان النظام الذي ينبثق عن العقيدة إذا لم يتضمن بيان كيفية التنفيذ للمعالجات ، وبيان كيفية المحافظة على العقيدة ، وبيان كيفية حمل الدعوة للمبدأ ، كانت الفكرة فلسفة خيالية فرضية تبقى في بطون الكتب مسجلة دون أن يكون لها أثر في الحياة الدنيا . ولذلك كان لا بد من العقيدة ، ولا بد من معالجات المشاكل ، ولا بد من الطريقة ، حتى يكون المبدأ . على أن مجرد وجود الفكرة والطريقة في العقيدة التي ينبثق عنها نظام لا يدل على أن المبدأ صحيح ، بل يدل فقط على أن هذا يكون مبدأ ، ولا يدل على غير ذلك . والذي يدل على صحة المبدأ أو بطلانه هو عقيدة المبدأ من حيث كونها صحيحة أو باطلة ، لأن هذه العقيدة هي القاعدة الفكرية التي ينبني عليها كـل فكر ، والتي تعين كل وجهة نظر ، والتي تنبثق عنها كل معالجة ، وكل طريقة . فإذا كانت هذه القاعدة الفكرية صحيحة كان المبدأ صحيحاً ، وإذا كانت باطلة كان المبدأ باطلاً من أسـاسه .
والقاعدة الفكرية إذا اتـفقت مع فطرة الإنسان ، وكانت مبنية على العقل ، فهي قاعدة صحيحة ، وإذا خالفت فطرة الإنسان ، أو لم تكن مبنية على العقل ، فهي قاعدة باطلة . ومعنى اتفاق القاعدة الفكرية مع فطرة الإنسان كونها تقرر ما في فطرة الإنسان من عجز واحتياج إلى الخالق المدبر ، وبعبارة أخرى ، توافق غريزة التدين . ومعنى كونها مبنية على العقل أن لا تكون مبنية على المادة ، أو على الحل الوسط .
وإذا استعرضنا العالم كله الآن لا نجد فيه إلا ثلاثة مبادئ هي : الرأسمالية ، والاشتراكية ومنها الشيوعية ، والمبدأ الثالث هو الإسلام . والمبدآن الأولان تحمل كل واحد منهما دولة أو دول ، والمبدأ الثالث لا تحمله دولة ، وإنما يحمله أفراد في شعوب ، ولكنه موجود عالمياً في الكرة الأرضية .
أما الرأسمالية فإنها تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة ، وهذه الفكرة هي عقيدتها ، وهي قيادتها الفكرية ، وهي قاعدتها الفكرية ، وبناء على هذه القاعدة الفكرية كان الإنسان هو الذي يضع نظامه في الحياة ، وكان لا بد من المحافظة على الحريات للإنسان ، وهي حرية العقـيدة ، وحرية الرأي ، وحرية الملكية ، والحرية الشخصية ، وقد نتج عن حرية الملكية النظام الاقتصادي الرأسمالي ، فكانت الرأسمالية هي أبرز ما في هذا المبدأ ، وأبرز ما نتج عن عقيدة هذا المبدأ ، لذلك أطلق على هذا المبدأ انه المبدأ الرأسمالي ، من باب تسمية الشيء بأبرز ما فيه .
وأما الديمقراطية التي أخذ بها هذا المبدأ فهي آتية من جهة أن الإنسان هو الذي يضع نظامه ، ولذلك كانت الأمة هي مصدر السلطات ، فهي التي تضع الأنظمة ، وهي التي تستأجر الحاكم ليحكمها ، وتنزع هذا الحكم منه متي أرادت ، وتضع له النظام الذي تريـد ، لأن الحكم عقد إجارة بين الشعب والحاكم ليحكم بالنظام الذي يضعه له الشعب ليحكمه به .
والديمقراطية وان كانت من المبدأ لكنها ليست أبرز من النظام الاقتصادي فيه ، بدليل أن النظام الرأسمالي في الغرب يؤثر على الحكم ، ويجعله خاضعاً لأصحاب رؤوس الأموال ، حتى ليكاد يكون الرأسماليون الحكام الحقيقيين في البلاد التي تعتنق المبدأ الرأسمالي . وعلاوة على ذلك فليست الديمقراطية مختصة بهذا المبدأ ، فان الشيوعيين أيضاً يدعون الديمقراطية ويقولون بجعل الحكم للأمة . ولذلك كان من الأدق أن يطلق على هذا المبدأ بأنه المبدأ الرأسمالي .
الأصل في نشوء هذا المبدأ أن القياصرة والملوك في أوربا وروسيا كانوا يتخذون الدين وسيلة لاستغلال الشعوب ، وظلمها ، ومص دمائها ، وكانوا يتخذون رجال الدين مطية لذلك . فنشأ عن هذا صراع رهيب قام أثناءه فلاسفة ومفكرون منهم من أنكر الدين مطلقاً ، ومنهم من اعترف بالدين ولكنه نادى بفصله عن الحياة . حتى استقر الرأي عند جمهرة الفلاسفة والمفكرين على فكرة واحدة هي فصل الدين عن الحياة ، ونتج عن ذلك طبيعياً فصل الدين عن الدولة . واستقر الرأي على عدم البحث في الدين من ناحية إنكاره أو الاعتراف به ، وحصر البحث في أنه يجب أن يفصل الدين عن الحياة . وتعتبر هذه الفكرة حلاً وسطاً بين رجال الدين الذين يريدون أن يكون كل شيء خاضعاً لهم باسم الدين ، وبين الفلاسفة والمفكرين الذين ينكرون الدين وسلطة رجال الدين ، فهي لم تنكر الدين ، ولم تجعل له دخلاً في الحياة ، وإنما فصلته عن الحياة ، فكانت العقيدة التي اعتنقها الغرب قاطبةً هي هذا الفصل للدين عن الحياة ، وكانت هذه العقيدة هي القاعدة الفكرية التي تبنى عليها جميع الأفكار ، ويتعين على أساسها الاتجاه الفكري للإنسان ووجهة نظره في الحياة ، وعلى أساسها تعالج جميع مشاكل الحياة ، وهي القيادة الفكرية التي يحملها الغرب ويدعو العالم إليها .
وعقيدة فصل الدين عن الحياة اعتراف ضمني بأنه يوجد شيء يسمى الدين ، أي يوجد خالق للكون والإنسان والحياة ، ويوجد يوم البعث ، لأن هذا هو أصل الدين من حيث هو دين ، وهذا الاعتراف هو إعطاء فكرة عن الكون والإنسان والحياة ، وعما قبل الحياة ، وعما بعـدها ، لأنها لم تنف وجود الدين . بل إنها حين أعطت فكرة فصله ، اعترفت بوجوده ضمناً فتكون قد أثبتت وجود الدين وأعطت فكرة أنه لا علاقة لهذه الحياة بما قبلها وبما بعدها حين قالت بفصل الدين عن الحياة وأن الدين صلةً بين الفرد وخالقه فقط . وبهذا تكون عقـيدة (فصل الدين عن الحياة) بمفهومها الشامل فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة ، ومن هنا كان المبدأ الرأسمالي على الوجه الذي بيناه مبدأ كباقي المبادئ .
وأما الاشتراكية ومنها الشيوعية فهي ترى أن الكون والإنسان والحياة مادة فقط ، وأن المادة هي أصل الأشياء ، ومن تطورها صار وجود الأشياء ، ولا يوجد وراء هذه المادة شيء مطلقاً ، وأن هذه المادة أزلية قديمة لم يوجدها أحد ، أي أنها واجبة الوجود ، ولذلك ينكرون كون الأشياء مخلوقةً لخالق ، أي أن ينكرون الناحية الروحية في الأشياء ويعتبرون الاعتراف بوجودها خطراً على الحياة ، لذلك يعتبرون الدين أفيون الشعوب الذي يخدرها ، ويمنعها من العمل . ولا وجود عندهم لشيء سوى المادة ، حتى الفكر إنما هو انعكاس المادة على الدماغ ، وعليه فالمادة أصل الفكر ، وأصل كل شيء ، ومن تطورها المادي توجد الأشياء . وعلى هذا فهم ينكرون وجود الخالق ، ويعتبرون المادة أزلية ، فهم ينكرون ما قبل الحياة وما بعدها ، ولا يعترفون إلا بالحياة فقط .
ومع اختلاف هذين المبدأين في النظرة الأساسية إلى الإنسان والكون والحياة ، فأنهما يتفقان في المثل العليا للإنسان هي القيم العليا التي يضعها الإنسان نفسه ، وأن السعادة هي الأخذ بأكبر نصيب من المتع الجسدية ، لأنها في نظرهما هي الوسيلة إلى السعادة ، بل هي السعادة . ومتفقان معاً على إعطاء الإنسان حريته الشخصية يتصرف بما يشاء وعلى نحو ما يريد ، مادام يرى في هـذا التصرف سعادته . ولذلك كان السلوك الشخصي أو الحرية الشخصية بعض ما يقدسه هذان المبدآن .
ويختلف هذان المبدآن في النظرة إلى الفرد والمجتمع ، فالرأسمالية مبدأ فردي ، يرى أن المجتمع مكون من أفراد ، ولا ينظر للمجتمع إلا نظرةً ثانويةً ، ويخص نظرته بالفرد ، ولذلك يجب أن تضمن الحريات للفرد. ولضمان الحرية له يعمل أي فرد للمجتمع ، ومن هنا كانت حرية العقيدة بعض ما تقدسه ، وكانت الحرية الاقتصادية مقدسةً أيضاً ولا تقيد بناء على فلسفتها ، وإنما تقيد من قبل الدولة لضمان الحريات ، وتنفذ الدولة هذا التقييد بقوة الجندي وصرامة القانون . إلا أن الدولة هي وسيلة ، وليست غاية ، ولذلك كانت السيادة نهائياً للأفراد لا للدولة . ولذلك كان المبدأ الرأسمالي يحمل قيادة فكرية هي فصل الدين عن الحياة ، وعلى أساسها يحكم بأنظمته ، ويدعو لها ، ويحاول أن يطبقها في كل مكان .
وأما الاشتراكية – ومنها الشيوعية – فهي مبدأ يرى أن المجتمع مجموعة عامة تتألف من البشر وعلاقاتهم بالطبيعة ، تلك العلاقات المحتومة المحددة التي يخضعون لها خضوعاً حتمياً وآلياً . وهذه المجموعة كلها شيء واحد ، الطبيعة ، والإنسان ، والعلاقات ، كلها شيء واحـد ، لا أجزاء منفصل بعضها عن بعض ، فالإنسان تعتبر الطبيعة جانباً من شخصيته ، وهي الجانب الذي يحمله في ذاته ، ولذلك لا يتطور الإنسان إلا وهو معلق بهذا الجانب من شخصيته وهو الطبيعة ، لأن صلته بالطبيعة صلة الشيء بنفسه ، ولذلك يعتبر المجتمع مجموعة واحدة تتطور كلها معاً تطوراً واحداً ، ويدور الفرد تبعاً لذلك كما يدور السن في الدولاب . ولذلك لم تكن عندهم حرية عقيدة للفرد ، ولا حرية اقتصادية . فالعقيدة مقيدة بما تريده الدولة ، والاقتصاد مقيد بما تريده الدولة ، ولهذا كانت الدولة أيضاً بعض ما يقدسه المبدأ . وعن هذه الفلسفة المادية انبثقت أنظمة الحياة ، وجعل النظام الاقتصادي هو الأساس الأول ، وهو المظهر العام لجميع الأنظمة . ولذلك كان المبدأ الاشتراكي ومنه الشيوعي يحمل قيادة فكرية ، هي المادية والتطور المادي ، وعلى أساسها يحكم بأنظمته ، ويدعو لها ، ويحاول أن يطبقها في كل مكان .
وأما الإسلام فهو يبين أن وراء الكون الإنسان والحياة خالقاً خلقها هو الله تعالى ، ولذلك كان أساسه الاعتقاد بوجود الله عز وجل ، وكانت هذه العقيدة هي التي عينت الناحية الروحية ، ألا وهي كون الإنسان والحياة والكون مخلوقة لخالق ، ومن هنا كانت صلة الكون بوصفه مخـلوقاً ، بالله الخالق . هي الناحية الروحية في الكون . وصلة الحياة المخلوقة ، بالله الخالق ، هي الناحية الروحية في الحياة . وصلة الإنسان المخلوق ، بالله الخالق ، هي الناحية الروحية في الإنسان ، ومن هنا كانت الروح هي إدراك الإنسان لصلته بالله تعالى .
والإيمان بالله يجب أن يقترن بالإيمان بنبوة محمد ورسالته ، وبأن القرآن كلام الله ، فيجب الإيمان بكل ما جاء به . ولهذا كانت العقيدة الإسلامية تقضي بأنه يوجد قبل الحياة ما يجب الإيمان به وهو الله ، وتقضي بالإيمان بما بعد الحياة ، وهو يوم القيامة ، وبأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا مقيد بأوامر الله و نواهيه ، وهذه هي صلة الحياة بما قبلها ، ومقيد بالمحاسبة على اتباع هذه الأوامر واجتناب هذه النواهي ، وهذه هي صلة الحياة بما بعدها ، ولذلك كان حتماً على المسلم أن يدرك صلته بالله حين القيام بالأعمال ، فيسير أعماله بأوامر الله ونواهيه وكان ذلك هو معنى مزج المادة بالروح والغاية من تسييرها بأوامر الله ونواهيه هي رضوان الله . والغاية المقصودة من القيام بها هي القيمة التي يحققها العمل .
ولذلك لم تكن الأهداف العليا لصيانة المجتمع ، من وضع الإنسان بل هي من أوامر الله ونواهيه ، وهي ثابتة لا تتغير ولا تتطور ، فالمحافظة على نوع الإنسان ، وعلى العقل ، وعلى الكرامة الإنسانية ، وعلى نفس الإنسان ، وعـلى الملكية الفردية ، وعلى الدين ، وعلى الأمن ، وعلى الدولة ، أهداف عليا ثابتة لصيانة المجتمع ، لا يلحقها التغيير ولا التطور ، ووضع للمحافظة عليها عقوبة صارمة ، فوضع الحدود والعقوبات للمحافظة على هذه الأهداف الثابتة ، ولذلك يعتبر القيام بالمحافظة على هذه الأهداف واجباً ، لأنها أوامر ونواه من الله ، لا لأنها تحقق قيماً مادية . وهكذا يقوم المسلم وتقوم الدولة بكافة الأعمال حسب أوامر الله ونواهيه لأنها هي التي تنظم شئون الإنسان كلها ، والقيام بالأعمال حسب أوامر الله ونواهيه هو الذي يجعل الطمأنينة عند المسلم . ومن هنا كانت السعادة ليست إشباع الجسد وإعطاءه متعه ، بل هي إرضاء الله سبحانه وتعالى .
أما الحاجات العضوية والغرائز فقد نظمها الإسلام تنظيماً يضمن إشباع جميع جوعاتها ، من جوعة معدة ، أو جوعة نوع ، أو جوعة روحية ، أو غير ذلك . ولكن لا بإشباع بعضها على حساب بعض ، ولا بكبت بعضها وإطلاق بعض ولا بإطلاقها جميعها ، بل نسقها جميعها وأشبعها جميعها بنظام دقيق ، مما يهيئ للإنسان الهناء والرفاه ، ويحول بينه وبين الانتكاس إلى درك الحيوان بفوضوية الغرائز .
ولضمان هذا التنظيم ، ينظر الإسلام للجماعة باعتبارها كلاً غير مجزأ ، وينظر للفرد باعتباره جزءاً من هذه الجماعة غير منفصل عنها . ولكن كونه جزءاً من الجماعة لا يعني أن جزئيته هذه كجزئية السن في الدولاب ، بل يعنى أنه جزء من كل ، كما إن اليد جزء من الجسم ، ولذلك عني الإسلام بهذا الفرد بوصفه جزءاً من الجماعة ، لا فرداً منفصلاً عنها ، بحيث تؤدي هذه العناية للمحافظة على الجماعة ، وعني في نفس الوقت بالجماعة لا بوصفها كلاً ليس له أجزاء بل بوصفها كلاً مكوناً من أجزاء هم الأفراد بحيث تؤدي هذه العناية إلى المحافظة على هؤلاء الأفراد كأجزاء ، قال صلى الله عليه وآله وسلم " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فان تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وان أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جمـيعاً " .
وهذه النظرة للجماعة والفرد هي التي تجعل للمجتمع مفهوماً خاصاً ، لأن هؤلاء الأفراد وهم أجزاء من الجماعة لا بد أن تكون لديهم أفكار تربطهم ، يعيشون حسبها ، وأن يكون لهم مشاعر واحدة يتأثرون بها ويندفعون بحسبها ، وأن يكون لهم نظام واحد يعالج مشاكل حياتهم جميعها . ومن هنا كان المجتمع مؤلفاً من الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة ، وكان الإنسان مقيداً في الحياة بهذه الأفكار والمشاعر والأنظمة . ولذلك كان المسلم في الحياة مقيداً في كل شيء بالإسلام وليس له حريات مطلقاً . فالعقيدة للمسلم مقيدة بحدود الإسلام وليست مطلقة . ولذلك يعتبر ارتداده جريمة كبرى يستحق عليها القتل إن لم يرجع . والناحية الشخصية مقيدة بنظام الإسلام ، ولذلك كان الزنا جريمةً يعاقب عليها ، دون رأفة مع التـشهير ( وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) ، وكان شرب الخمر جريمة يعاقب عليـها ، وكان الاعتداء على آخرين جريمة تختلف باختلاف هذا الاعتداء من قذف أو قتل أو ما شابه ذلك ، والناحية الاقتصادية مقيدة بالشرع وبالأسباب التي أباح للفرد التملك بها ، وبحقيقة هذه الملكية الفردية من أنها إذن الشرع بالانتفاع بالعين . وكان الخروج عن هذه القيود جريمة تختلف باختلاف نوع هذا الخروج من سرقة أو نهب أو ما شاكل ذلك . ولهذا كان لا بد من الدولة التي تحفظ هذه الجماعة وهذا الفرد ، وتطبق النظام على المجتمع ، وكان لابد من تأثير المبدأ في معتنقه ليكون الحفظ طبيعياً آتياً من قبل الناس أنفسهم . ولذلك كان المبدأ هو الذي يقيد ويحفظ ، والدولة هي المنفذة . ولهذا كانت السيادة للشرع وليست للدولة ولا للأمة ، وان كانت السلطة للأمة ومظهرها في الدولة ، ومن هنا كانت طريقة تنفيذ النظام هي الدولة وان كان الاعتماد على تقوى الله في الفرد المؤمن ليقوم بأحكام الإسلام . وعليه كان لا بد من التشريع الذي تنفذه الدولة ، والتوجيه للفرد المؤمن لينفذ الإسلام بدافع تقوى الله . ومن هنا كان الإسلام عقيدة وأنظمة ، وكان مبدأ الإسلام فكرة وطريقة من جنس هذه الفكرة ، وكان نظامه منبثقاً عن عقيدته ، وكانت حضارته طرازاً معيناً في الحياة . وكانت طريقته في حمل الدعوة أن يطبق من قبل الدولة ، وأن يحمل قيادة فكرية إلى العالم ، تكون هي الأساس لفهم نظام الإسلام والعمل به ، وكان العمل به في الجماعة التي تحكم بنظام الإسلام ، نشراً للدعوة الإسلامية ، لأن تطبيق نظام الإسلام على غير المسلمين من الناس يعتبر من الطريقة العملية للدعوة ، فقد كان لهذا التطبيق الأثر الأكبر في إيجاد هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف .
والحاصل أن المبادئ الموجودة في العالم ثلاثة هي الرأسمالية ، والاشتراكية ومنها الشيوعية ، والمبدأ الثالث هو الإسلام ، ولكل واحد من هذه المبادئ عقيدة تنبثق عنها أنظمته ، وله مقياس لأعمال الإنسان في الحياة ، ونظرة خاصة للمجتمع ، وطريقة لتنفيذ النظام .
أما من حيث العقيدة فالمبدأ الشيوعي يرى أن المادة أصل الأشياء ، وأن جميع الأشياء تصدر عنها بطريق التطور المادي . والمبدأ الرأسمالي يرى أنه يجب أن يفصل الدين عن الحياة ، وينتج عن ذلك فصل الدين عن الدولة ، فالرأسماليون لا يريدون أن يبحثوا هل هناك خالق أم لا ، وإنما يبحثون أنه لا دخل للخالق في الحياة ، سواء اعترف بوجوده أم أنكره ، ولذلك يستوي عندهم المعترف بوجود الخالق والمنكر له في عقيدتهم ، وهي فصل الدين عن الحـياة .
وأما الإسلام فيرى أن الله هو خالق الوجود ، وأنه أرسل الأنبياء والرسل بدينه لبني الإنسان ، وأنه سيحاسب الإنسان يوم القيامة على أعماله ، ولذلك كانت عقيدته الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله .
وأما من حيث كيفية انبثاق النظام عن العقيدة فالمبدأ الشيوعي يرى أن النظام يؤخذ من أدوات الإنتاج ، لأن المجتمع الإقطاعي مثلاً تكون الفأس فيه هي أداة الإنتاج ، ومنها يؤخذ نظام الإقطاع ، فإذا تطور المجتمع إلى الرأسمالية تصبح الآلة هي أداة الإنتاج . ولذلك يؤخذ النظام الرأسمالي منها ، فنظامه مأخوذ من التطور المادي .