اخوان اثنان ورثا عن أبيهما أرضاً فتقاسماها بالتساوي ، وبعد مدة من الزمن نشب خلاف بينهما على سلامة الحد الفاصل بينهما ، وراح كل واحد منهما يتهم الآخر بأنه قدّم الحد عليه .. وأبى كلاهما أن يحكم في الأمر العقل والتعقل ، وأنساهما الطمع أنهما اخوان ..
ودبّ النفور وتعالى الصوت واستجر التوتر التهديد بما هو بحجم الكارثة ، ومضى كلاهما يجتر الحقد على أخيه وبات كلاهما يخشى من نفسه على نفسه ساعة الشيطان .. وتمر الأيام ويزداد الأمر تفاقماً ويرى أهل القرية أن يجنبوا الأخوين وقوع مأساة ، فاقترحوا عليهما أن يحتكما إلى رجل ثقة يقضي بينهما بالحق .. فمضى الاخوان إلى رجل في القرية هو شيخ طاعن في السن على وجهه إشراقة البراءة وفي عينيه بصيص الحكمة وخبرة الدهر. فرحب بهما ثم عرضا عليه قضيتهما .. فهدأ الشيخ خاطرهما وشكر لهما ثقتهما به .. ثم وعد بمرافقتهما بشرط أن يرضيا بالحكم الذي سيصدره بغير تردد منهما ولا تراجع . قبل الاخوان الشرط وما كانا ليستطيعا الرفض أو التحفظ أمام مهابة الشيخ وبالغ نضجه وجاؤوا القرية وإذا القرية كلها في انتظارهم ومضوا مباشرة إلى الأرض المختلف فيها على تحديد الحد بين السهمين .. وانهالت القرية وراءهم ليساندوا الحكم ويكونوا شهوداً ..
ولما انتهوا إلى الحقل سأل الشيخ الرجلين عن مكان الحد .. ونظر طويلاً وقلب في حاجبيه ، ورفع يداً إلى ما فوق عينيه فيما مدّ الأخرى إلى الأمام في اتجاه امتداد الحقل . وقدّم رِجلاً وأخّـر الأخرى وخطا يميناً ثم يساراً ثم إلى الأمام ثم إلى الوراء وعيون الحضور شاخصة إليه تنتظر نتيجة خبرته وقراره ، وأخيراً توقف الرجل ونظر إلى الناس وقال :
ـ كِلا الأخوين لا يعرفان بالضبط موقع الحد الفاصل وأنتم كلكم بطبيعة الحال لا تعرفونه وأنا كذلك لم أتمكن من معرفته ، بقي عليّ أن استنطق الوحيد الذي يعرف .
ـ فأجاب أحد الحضور : أوتظن أن الله سيعمل معجزة ؟
فأرسل الشيخ ابتسامة رائعة وقال :
ـ لا .. لن أسأل الله في الأمر لأنه ليس طرفاً في القضية ، بل أسأل الأرض ذاتها ، فابتسم غير واحد وتبادل بعضهم النظرات المستريبة في سلامة عقل الشيخ .. وأما الشيخ فانبطح على الأرض وألصق أذنه بترابها واستمر دقائق من الزمن ثم نهض ونفض عن لحيته التراب وقال :
ـ لم تجبني الأرض بعد ، لعل في أذني هذه بعض الصمم ، فصوت الأرض خافت ، وانبطح ثانية ولكن على الجانب الآخر والصق أذنه الأخرى بالتراب وفي أقل من ثوان نهض نهوض الظافر الواثق وقال :
ـ الأرض قالت : لا ، أنا لست لهذا و لا لهذا بل هذا وهذا كلاهما لي !
فكان لكلام الشيخ وقع الصاعقة وأدرك الاخوان مغزى ( جواب الأرض ) ونظر كل منهما في عيني الآخر ثم وثب كل منهما على الآخر وفي العين دمعة ، وفي الحلق غصّة وتعانقا طويلاً في دهشة الناس وانهمرت دموعهما وصاح كل منهما :
ـ أخي ضع الحد حيث تشاء ، وإن شئت فالحقل كله لك !!