هذا البحث للشاعر و الناقد الفلسطيني الكبير الدكتور عز الدين المناصرة
التناص والتلاص في الموروث النقدي
عز الدين المناصرة
ناقد واكاديمي من فلسطين
أخذ موضوع (السرقات الأدبية = التلاصّ)، حيّزاً واسعاً ﻓﻲ الموروث النقدي، ورغم أنَّ المصطلح الأوروبي، (التناصّ) الذي نحتته جوليا ﻛﺮﻳﺴﺘﻴﭭﺎ، الناقدة البلغارية المتفرنسة، قد شاع، وأصبح مستخدماً بشكل واسع ﻓﻲ النقد العربي الحديث، إلاّ أنَّ بعض الباحثين العرب ﻓﻲ موضوع السرقات، ظلّوا يستخدمون قراءة معظم أشكال التناصّ، على ﺃﻧﻬﺎ سرقات. والصحيح أن الموروث النقدي، تفاعل من الناحية العملية مع السرقات، على ﺃﻧﻬﺎ مزيج من أشكال متعددة للتناصّ والتلاصّ معاً، وليس التلاصّ وحده، رغم إدراجها جميعاً تحت عنوان (السرقات).
1. مقدّمة:
وتكمن الإشكالية الثانية ﻓﻲ موضوع (السرقات = التلاصّ) ﻓﻲ الموروث النقدي، ﻓﻲ المصطلحات المستخدمة ﻓﻲ وصف درجات الإبداع والتقليد والسرقة، حيث تتداخل بعض هذه المصطلحات، أو تتشابه، أو تختلف ﻓﻲ التسمية. ولو أخذنا معظم المصطلحات التي صاغها الأوروبيون، لوجدنا تشابهاً كبيراً بينها وبين المصطلحات العربية التي استخدمها النقاد العرب القدامى.
يهدف هذا البحث ﺇﻟﻰ إعادة قراءة موضوع السرقات من منظور النقد الحديث، بقراءة وجهات النظر المتنوعة، ﻓﻲ الأفكار الأساسية للنقاد العرب القدامى، من أجل معرفة التشابه مع مفهوم التناصّ الأوروبي، بعيداً عن أية إسقاطات معاصرة. وقد تناول النقاد العرب القدامى موضوع السرقات بشكل واسع ﻓﻲ كتب وصل بعضها إلينا، وبعضها ﻟﻢ يصل، تناوله عدد كبير من النقاد، من بينهم: (ابنُ قُتيبة ﻓﻲ (الشعر والشعراء)، وابنُ السكيت ﻓﻲ (كتاب سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه)، وأبو الفضل أحمد بن أﺑﻲ طاهر طيفور ﻓﻲ (سرقات البحتري من أﺑﻲ تمّام)، وأبو الضياء بشر بن يحيى ﻓﻲ (سرقات البحتري من أﺑﻲ تمّام، وكتاب السرقات الكبير)، وعبد الله بن المعتزّ ﻓﻲ (سرقات الشعراء)، وأبو محمد عبد الله بن يحيى المعروف بابن كناسة ﻓﻲ (سرقات الكميت من القرآن وغيره)، والزبير بن بكار القرشي ﻓﻲ (إغارة كُثير على الشعراء)، وأحمد بن عبد الله الثقفي ﻓﻲ (مَثالبُ أﺑﻲ نواس)، وابنُ عمّار ﻓﻲ (مساوئ وسرقات أﺑﻲ نواس)، وأبو علي السجستاني ﻓﻲ (سرقات أﺑﻲ تمّام)، والآمدي صاحب كتاب الموازنة، له ﻓﻲ السرقات كتاب سمّاه، (فرق ما بين الخاص والمشترك من معاني الشعر)، والصاحب بن عبّاد ﻓﻲ (الكشف عن مساوئ المتنبّي)، وأبو علي الحاتمي ﻓﻲ (الرسالة الموضّحة ﻓﻲ سرقات المتنبّي)، وله أيضاً (حلية المحاضرة)، وابن وكيع التنيسي ﻓﻲ (كتاب المنصف)، وابن جنّي ﻓﻲ كتاب (النقض على ابن وكيع ﻓﻲ شعر المتنبّي وتخطئته)، وابن الدهّان ﻓﻲ (المآخذ الكندية من المعاني الطائيّة)، وابن الأثير ﻓﻲ (رسالة الاستدراك)، وأبو سعيد العميدي ﻓﻲ (الإبانة عن سرقات المتنبّي)، والحسن بن أحمد الأعرابي ﻓﻲ (السَلّ والسرقة)، ومُهلهل بن يموت ﻓﻲ (سرقات أﺑﻲ نواس)، وأبو فرج الأصبهاني ﻓﻲ (الأغاني)، والصولي ﻓﻲ (أخبار أﺑﻲ تمّام)، والمرزباني ﻓﻲ (الموشّح)، وأبو هلال العسكري ﻓﻲ (الصناعتين) وابن شرف ﻓﻲ (إعلام الكلام)، وعبد القاهر ﻓﻲ (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة)، وابن رشيق ﻓﻲ (العُمدة)، وابن الأثير ﻓﻲ (المثل السائر)، والقاضي الجرجاني ﻓﻲ (الوساطة...)(1)، وغيرهم كثير.
2. النقاد العرب القدامى والسرقات الشعرية:
ليس الهدف هنا، استقصاء كل ما كتبه النقاد القدامى ﻓﻲ موضوع السرقات، ﻭﺇﻧﻤﺎ اختيار عينة أساسية وضرورية، لفهم الكيفية التي تناول ﺑﻬﺎ النقاد القدامى، موضوع السرقات الشعرية، والسبب ﻓﻲ الاختيار، وليس الاستقصاء التاريخي،هو كثرة التشابهات ﻓﻲ تناول الموضوع ﺇﻟﻰ درجة التكرار، لأننا أمام ركام هائل، مما كُتب ﻓﻲ الموضوع.
2. 1: الجُمحي:
- يقول طه إبراهيم ﻓﻲ مقدمة كتاب (طبقات الشعراء) لابن سلاَّم الجُمحي، أنَّ ابن سلاَّم أشار ﺇﻟﻰ موضوع (النَحل)، وَأراد أن يحمل الذين يدوّنون الشعر على التنقية، ويدعوهم ألاّ يتركوا للخلف إلاّ الثابت الصحيح. فقد شاعت قبل ابن سلاّم، فكرة أن من الشعر الجاهلي، ما هو مصنوع(2). ويرجع ابن سلاّم أسباب وضع الشعر ﺇﻟﻰ سببين:
1. العصبية ﻓﻲ العصر الإسلامي، وحرص كثير من القبائل العربية على أن تضيف لإسلامها ضروباً من المكانة والمجد، وهذا المجد يسجّلُهُ النقد، وديوانُهُ الشعر.
2. الرُواة، وزيادتهم ﻓﻲ الأشعار(3): (وكان أول من جَمَعَ أشعار العرب، وساق أحاديثها: حـمّاد الراوية، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد ﻓﻲ الأشعار، وكان يكذب ويَلْحن ويكسر)(4).
2. 2: ابن قتيبة:
- أمّا ابن قتيبة ﻓﻲ كتابه (الشعر والشعراء)، فقد استخدم عدّة مصطلحات منها: (السرقة)، حين نقل عن الأصمعي قوله: إنّ رؤبة بن العجّاج كان يرى أن الشاعر ذا الرُمَّة، يسرق منه(5). واستخدم ابن قتيبة مصطلح (الأخذ): وكان ذو الرمَّة، كثير الأخذ من غيره(6). وهو أي ابن قتيبة يستخدم تعابير مثل: 1. ومما سَبقَ إليه، فأُخذ منه. 2. هل عَلقْتَ من جرير شيئاً. 3. حتى ظنّ الرجل أن الفرزدق قالها، وأن جرير سرقها. 4.أخذه فلان. 5. وهو مثل قول فلان. 6. جاء بمعناه وزاد عليه. 7. وممّا أخذه الشعراء من شعر امرئ القيس. 8. أخذ رؤبة من أبيه. 9. سرقه من أبيه. 10. ومن جيّد شعره، ويقال إنّهُ منحول. 11. ومما نُحل ... . وهكذا يكون ابن قتيبة، قد استخدم المصطلحات التالية: السرقة والأخذ والانتحال والعُلوق والتشابه والزيادة، لكن مصطلح (الأخذ) هو الأكثر استعمالاً ﻓﻲ تطبيقاته، كذلك فهو ﻟﻢ يعرّف هذه المصطلحات. وهو يقول: (وليس لمتأخّر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدّمين)(7). وفيما يلي، نُقدّم مثالاً على (الأخذ) عند ابن قتيبة: (ومما سبق إليه مالك بن الريب، فأُخذ عنه، قوله: (العبد يُقرع بالعصا ... والحرُّ تكفيه الإشارة)، وقال ابن مُفرِّغ: (العبد يُقرع بالعصا ... والحرُّ تكفيه الملامة)، وقال بشار بن برد: (الحرُّ يُلحى والعصا للعبدِ ... وليس للمُلحفِ مثلُ الردِّ)(8). أما المثال الثاني الذي نختاره من ابن قتيبة، فهو: (قال امرؤ القيس: وقوفاً ﺑﻬﺎ صحبي عليَّ مطيّهُمْ ... يقولون: لا تهلَك أسىً وتجَمَّلِ)، أخذه طرفة فقال: وقوفاً ﺑﻬﺎ صحبي عليَّ مطيّهمْ ... يقولون: لا تهلك أسىً وتجلَّدِ)(9). أما (السرقة) فقد وردت على النحو التالي: (سرق رؤبة بيته: وبلدٍ يغتال خطو المختطي)، سرقه من أبيه العجّاج الذي يقول: وبلدةٍ بعيدةِ النياطِ ... مجهولةٍ تغتالُ خطْوَ الخاطي)(10). وهكذا، فالسرقة والأخذ، يتشابهان عند ابن قتيبة. أما المنحول، فهو يقدم أبياتاً لشاعر ما، ﺛﻢ يقول: ويقال ﺇﻧﻬﺎ منحولة. كذلك نجد أنَّ ابن قتيبة يتعرض للأخذ ﻓﻲ مواضيع مشتركة مثل: (وصف الفرس والناقة) أو (وصف ثغر المرأة) وغيرها. وتبقى قضية الأخذ ﻓﻲ حالة امرئ القيس مع طرفة، مسألة مُحيّرة، فالفارق هو بين (وتجمّلِ ... وتجلّدِ) فقط، فهل يعود الأمر ﺇﻟﻰ خطأ ﻓﻲ الرواية، كما يقول بعض النقاد، أم أن المسألة هي سرقة ... وكفى، أم أن الأمر يتعلق بالانتحال، أي اختلاف القائلين. ويُعلّق إحسان عباس على قول ابن قتيبة: (ولا نظرتُ ﺇﻟﻰ المتقدم منهم، بعين الجلالة لتقدمه، ﻭﺇﻟﻰ المتأخر منهم، بعين الاحتقار لتأخره، بل نظرت بعين العدل على الفريقين)، أن ابن قتيبة ﻓﻲ جهده النقدي يمتلك: (صفتين: التوفيق والتسوية)(11)، ولكن رغم هذا القول لابن قتيبة، فإنّه ﻓﻲ التطبيق يُراعي مسألة السابق واللاحق، مراعاةً واضحة.
2. 3: مُهلهل بن يموت:
ﻓﻲ كتابه (سرقات أﺑﻲ نواس)، يقدّم مُهلهل بن يموت، تبريراً لرسالته، يشبه ﺇﻟﻰ حدّ كبير تبريرات النقاد الآخرين، حيث يزعم الموضوعية: (ورأيت من الناس كلَّ من تعصّب لشاعر من الشعراء، قصد آخر بالعيب والازدراء، على مقدار الشهوات، ومكان العَصَبيات. كلٌّ عبد شهوته وخادم عصبيته. ﺛﻢَّ هم أجمعوا على أﺑﻲ نواس، وتفضيله على شعراء الناس، والعصبيّة له)(12). ورغم أنَّ ابن يموت وأبا نواس، بصريان، إلاّ أنه لا يتعصب له، ﻟﻬﺬﺍ قرر كشف سرقاته، كما يقول. ﺛﻢّ يبدأ ابن يموت بكشف سرقات أﺑﻲ نواس (ﻓﻲ باب المديح)، مستخدماً مصطلحي: السرقة والأخذ، فيقدم أربعة وثلاثين مثالاً من سرقات وأخذ أﺑﻲ نواس ﻓﻲ باب المديح وحده. فمن السرقات المطابقة تماماً، قول أﺑﻲ نواس: (فتىً يشتري حسن الثناء بمالهِ)، سرقه حرفياً من الشاعر الأبيرد بن المعتذر. وقوله: (ﻭﻓﻲ السلم يزهى منبرٌ وسريرُ) سرقه حرفياً من أﺑﻲ صاره. أما الأخذ، فقد قال أبو نواس: (فتىً لا تلوك الخمر شحمة مالِهِ)، وكان قد أخذه من قول زهير: (أخو ثقةٍ، لا تُهلك الخمر مالَه). لكنَّ معظم ما ذكره ابن يموت ﻓﻲ الأخذ، هو مجرّد كلمة هنا تقابل كلمة هناك، وهو ما يقع ﻓﻲ دائرة المشترك العام، أما السرقات عند أﺑﻲ نواس ﻓﻲ المديح، فهي أوضح. ﺛﻢَّ يقرأ ويعدّد سرقات أﺑﻲ نواس ﻓﻲ (باب المراثي)، وهي أربعة أبيات، لكن بعضها لا يدخل ﻓﻲ باب السرقة. أما سرقاته ﻓﻲ (الأهاجي والمعاتبات)، فهي أربعة أبيات. أما سرقاته ﻓﻲ (الزهديات)، فهي ثلاثة، سرقها من: جرير، ومن نثر لعبد الملك بن مروان، ومن الأصمعي. أما سرقاته ﻓﻲ (الطرد)، فقد سرقها أبو نواس من: الشمردل اليربوعي، أﺑﻲ النجم، امرئ القيس، كعب بن زهير، ذي الرمَّة، عبيد بن الأبرص، عدي بن الرقاع، وعدد الأبيات المسروقة ﻓﻲ الطرديَّات هو اثنا عشر بيتاً، لكن بعضها لا يعتبر من السرقة، بل يدخل ﻓﻲ باب الأخذ. أما ﻓﻲ باب (الخمريات)، وهو الأهم والأشهر عند أﺑﻲ نواس، فإنَّ ابن يموت، يقدّم أمثلةً لاثنتين وأربعين سرقة. (قال الأعشى: وكأسٍ شربتُ على لذّةٍ... وأُخرى تداويتُ منها ﺑﻬﺎ)، فسرقه أبو نواس وقال: (دع عنك لومي، فإنَّ اللوم إغراءُ ... وداوني بالتي كانت هي الداء)(13). واستخدم ابن يموت ﻓﻲ موضوع سرقات الخمريات، مصطلحي: الأخذ والنقل، خمس مرّات من بين الاثنتين وأربعين سرقة. وبعضها سرقات حقيقية، وبعضها الآخر يدخل ﻓﻲ باب التأثر، وباب المشترك العام، وباب التشابه. أما سرقات أﺑﻲ نواس ﻓﻲ باب (المشهر ﻓﻲ المؤنث والمذكر)، فهي تقرب من ثلاثين سرقة، مستخدماً مصطلح الأخذ مرةً واحدة. وتنطبق على هذا الباب نفس الملاحظات السابقة.
- ﺛﻢ انتقل ابن يموت ﻓﻲ رسالته ﺇﻟﻰ البحث عن سلبيات وأخطاء أﺑﻲ نواس الأخرى، مع انتقاد (كفرياته). ﻭﻓﻲ الختام يعد ابن يموت بكتابة رسالة تناقض رسالته عن سرقات أﺑﻲ نواس: (أدُلُّ فيها على فضل الرجل، وأكشف من غزارة علمه، وسلامة طبعه، واستعلائه على القريض، وما يشهد له بالتقدم على كل شاعر ﻓﻲ زمانه)(14). وهذا الوعد من ابن يموت بإنصاف أﺑﻲ نواس بعد أن عدّد سرقاته، ظلّ مجرد وعد، مثل وعود معظم النقاد القدامى.
2. 4: الآمـدي:
- ﻓﻲ كتابه (الموازنة) بين أﺑﻲ تمّام والبحتري، يتعرض الآمدي لموضوع السرقات من خلال منهجه ﻓﻲ الموازنة. وهو يبدأ بذكر (مساوئ) الشاعرين، ويختم بذكر (محاسن) الشاعرين. فالبحث عن المساوئ والمحاسن هو هدف الموازنة: (وأذكرُ طرفاً من سرقات أﺑﻲ تمّام، وإحالاته، وغلطه، وساقط شعره، ومساوئ البحتري، ﻓﻲ أخذ ما أخذه من معاني أﺑﻲ تمّام، وغير ذلك من غلط ﻓﻲ بعض معانيه)(15). ﺛﻢّ يبدأ بسرقات أﺑﻲ تمّام، فيستعرض مختارات الحماسة لأبي تمّام: (فإنّه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث، إلاّ قرأه واطّلع عليه، ﻭﻟﻬﺬﺍ أقول: إنَّ الذي خفي من سرقاته، أكثر مما قام منها، على كثرتها. وأنا أذكر ما وقع الىّ ﻓﻲ كتب الناس من سرقاته، وما استنبطتُه أنا منها واستخرجته)(16). وهكذا يُقرّ الآمدي بمصطلح (السرقة) عند أﺑﻲ تمّام، ومصطلح (الأخذ) عند البحتري، لكنه لاحقاً – ﻓﻲ التطبيق – يوازي بين المصطلحين وكأنهما واحد. أما مرجعية الآمدي ﻓﻲ ذلك، فهي: 1. الكتب والروايات السابقة. 2.الاستنباط الشخصي، لكنّه يستخدم الحتمية الميكانية، حين يرى أن أبا تمّام مثقّفٌ واسع الاطلاع، والدليل هو مختاراته ﻓﻲ الحماسة، وبالتالي، فمن المؤكد –من وجهة نظره– أنه يسرق. ﺛﻢ يبدأ الآمدي بالتطبيق على أمثلة سرقات أﺑﻲ تمّام، مستخدماً الصيغ التالية: 1. أخذه الطائي. 2. أخذه الطائي وأحسن الأخذ. 3. أخذ الطائي المعنى والصفة. 4. أخذ صدر البيت الأول. 5.أخذ معنى البيت الثاني. 6.وقال جِرانُ العَوْد...وهو السابق ﺇﻟﻰ هذا المعنى،فتبعه الطائي. 7.وقال الطائي ... (وهو) أراد قول الفرزدق ...، فقصَّر عنه. 8.أخـذه الطائي، فخلط، لقصده مجانسة اللفظ. 9. أخذه الطائي، فأتى ﻓﻲ المعنى زيادةً، وجاء بـه ﻓﻲ بيتين، وقد ذكر المتقدمون هذا المعنى. 10. فأخذه أبو تمام فقال وألطف المعنى وأحسن اللفظ. 11. لست أدري، أيُّهما أخذ من صاحبه. 12. أنشدني دعبل هذه القصيدة، وجعل يُعجّبني من الطائي ﻓﻲ ادعائه إياها، وتغييره بعض أبياتها. 13. وقول أﺑﻲ تمّام ... يحتاج ﺇﻟﻰ تفسير، مع سرقته المعنى. 14. المعنى عند المرأة، أخذه أبو تمّام، فجعله ﻓﻲ الخمر. 15. أخذه أبو تمام، وعَدَل به ﺇﻟﻰ وجه المديح. 16. أخذ أبو تمّام اللفظ والمعنى جميعاً. 17. أخذ أبو تمّام المعنى فكشفه وأحسن اللفظ وأجاد. 18.قال أبو تمام: أخذتُهُ من نادبة. 19.أحسن الأخذ وأصاب التمثيل. 20. أخذه، فأفسد المعنى. 21. فقال الطائي، وحوَّل المعنى، وأجاد. 22.أخذه وعَـدَل بشطر البيت ﺇﻟﻰ وجـه آخـر، فأحسن. 23. أخذه، فغيّره تغييراً حسناً.
- هذه هي الصيغ والأشكال التي استخدمها الآمدي ﻓﻲ حديثه عن سرقات أﺑﻲ تمّام، ويمكن حصرها ﺑﻤﺎ يلي: 1. الأخـذ. 2. السرقة. 3. التبعيّة. 4. التقصير. 5.الخلط. 6. الزيادة. 7. الإدّعاء. 8. التغيير. 9. التعديل. 10. الكشف. 11.الإفساد. 12.التحويل. لكنّ المصطلح الأكثر استعمالاً، هو (الأخذ)، وهو الاسم المُلطّف للسرقات. وفيما يلي أمثلة من الآمدي، حول سرقات أﺑﻲ تمّام:
1. قال كُثير: (إذا وصلتنا خُلّةٌ كي تزيلها ... أبينا، وقلنا: الحاجبيَّةُ أوَّلُ)، فأخذه أبو تمّام ﻓﻲ قوله: (نقّلْ فؤادَكَ حيث شئتَ من الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيب الأوَّلِ)(17).
2. وقال الفرزدق: (أنتم قرارةُ كل مَدْفَعِ سَوْأةٍ ... ولكلّ سائلة تسيل قرارُ)، فأخذ أبو تمام اللفظ والمعنى جميعاً، ﻓﻲ قوله: (وكانت لوعةً ثمَّ اطمأنّتْ ... كذاكَ لكلِّ سائلةٍ قرارُ)(18).
3. وقال توبة بن الحُميِّر: (يقول أناسٌ: لا يضُرُّك نأْيُها ... بلى كلُّ ما شفَّ النفوسَ يضيرها)، أخذه أبو تمّام وزاد فيه بقوله: (لا شيء ضائرُ عاشقٍ، فإذا نأى ... عنه الحبيبُ، فكلُّ شيءٍ ضائِرُهُ)(19).
ونحن لا نرى ﻓﻲ تشابه كلمتي القافية، سرقةً، كما ﻓﻲ البيت الأول. ﺛﻢَّ يناقش الآمدي تخريجات ابن أﺑﻲ طاهر لسرقات أﺑﻲ تمّام، ويرى أنه: (أصاب ﻓﻲ بعضها، وأخطأ ﻓﻲ البعض، لأنه خلط الخاصّ من المعاني بالمشترك بين الناس، مما لا يكون مثله مسروقاً) كما يؤكّد الآمدي(20). فالعَرْجيّ يقول: (ألا أيّها الرَّبعُ الذي بان آهِلُهْ ... لقد أدركتْ فيك النوى ما تحاوِلُه)، أخذه أبو تمام ﻓﻲ قوله: (أجلْ أيُّها الرَّبعُ الذي خفَّ آهِلُه ... لقد أدركتْ فيكَ النوى ما تحاوِلُهْ). وبطبيعة الحال، هذه سرقة، لذا لا يعلّق الآمدي عليها، وكأنه يريد استكمال موضوع سرقات أﺑﻲ تمام بالاعتماد على ابن أﺑﻲ طاهر، لكنه يكرر قوله السابق، حين يقول: (وممّا نَسَبهُ فيه ابن أﺑﻲ طاهر ﺇﻟﻰ السَّرَق، ما ليس بمسروق، لأنه ممّا يشترك فيه الناس من المعاني والجاري على ألسنتهم، ومنه ما نسبه ﺇﻟﻰ السَّرَق والمعنيان مختلفان). مثل قول أﺑﻲ تمَّام: (ﺃﻟﻢ تمتْ يا شقيق الجود مُذْ زمنٍ ... فقال ﻟﻲ: ﻟﻢ يمتْ مَنْ ﻟﻢ يَمُتْ كرمُهْ)، أخذه كما يقول ابن أﺑﻲ طاهر من العتّابي: (رَدَّتْ صنائعُهُ إليه حياتَهُ...فكأنّه من نشرها منشورُ)(21). ويعلّق الآمدي: ومثل هذا لا يقال له مسروق، لأنه قد جرى ﻓﻲ عادات الناس.كما يورد الآمدي قول الخُريْمي: (أدركتني –وذاك أوّلُ دائي– بسجستانَ حِرْفةُ الآدابِ)، وقول أﺑﻲ تمّام: (أدركتْهُ، أدركتْني، حِرْفةُ الأدبِ)، فيرى ﺃﻧﻬﺎ ليست سرقة، لأن (حرفة الآداب) لفظة قد اشترك الناس فيها)(22). وهكذا يردّ على ابن أﺑﻲ طاهر بصيغ متنوعة مثل: 1. وهذا معنى شائع. 2. وهذا ليس مسروقاً، لأنه من المعاني المشتركة. 3. ليس بين المعنيين اتفاق. 4. هذا معنى متداول مشهور. 5. المعنيان مختلفان.
- وحين يصل الآمدي ﺇﻟﻰ سرقات البحتري، يرى أن البحتري أخذ من معاني مَن تقدّم من الشعراء، وممن تأخّر، أخذاً كثيراً، فقد أخرج ابن أﺑﻲ طاهر للبحتري، ستمائةِ بيتٍ مسروق، وأخذ من أﺑﻲ تمّام، مائة بيت، كما يقول الآمدي، مؤكداً أن باب السرقة ﻟﻢ ينج منه متقدم أو متأخر. وهنا يؤكد الآمدي أحد أسباب نشوء باب السرقات ﻓﻲ النقد، وهو أنَّ: (أصحاب أﺑﻲ تمّام، ادّعوا أنه أوّل سابق، وأنه أصل ﻓﻲ الابتداع والاختراع، فوجب إخراج ما استعاره من معاني الناس، لكن أصحاب البحتري ﻟﻢ يدّعوا ما ادّعاه أصحاب أﺑﻲ تمّام، ﻟﻬﺬﺍ ﻟﻢ أستقص باب البحتري، ولا قصدت الاهتمام ﺇﻟﻰ تتبعه)(23). ﺛﻢّ يقدّم بعض سرقات البحتري، مستخدما مصطلح (الأخذ) مثل قول محمد بن وهيب: (هل الدهر إلاّ غمرةٌ ﺛﻢ تنجلي ... وشيكاً، وإلاَّ ضيقَةٌ فَتَفَرَّجُ)، أخذه البحتري فقال: (هل الدهرُ إلاّ غمرةٌ وانجلاؤُها ... وشيكاً، وإلاّ ضيقةٌ وانفراجُها)(24). وهو يستخدم مصطلح الإلمام، دون أن يكون سرقة. ﺛﻢّ يتطرّق لما أخذه البحتري من أﺑﻲ تمّام، بتقديم عشرات الأمثلة على السرقات. ويناقش مرّة أخرى، (كما ناقش ابن أﺑﻲ طاهر)، ما خرّجه أبو الضياء بشر بن تميم من سرقات البحتري، معلناً عدم قناعته أنه مسروق، لأن أبا بشر: (تعدّى – السرقات – ﺇﻟﻰ التكثير، ﻭﺇﻟﻰ أن أدخل ﻓﻲ الباب، ما ليس منه ... فإنَّما السَّرَقُ ﻓﻲ الشعر، ما نُقل معناه دون لفظه)(25). وبعد أن يستعرض الأمثلة، التي يرى أن أغلبها تقع ﻓﻲ دائرة المعاني المشتركة، يختم موضوع السرقات بقوله: (وقد كان ينبغي لأبي الضياء أن لا يُخرِّج مثل هذا، ﻓﻲ السَّرَق، ولا يفضح نفسه)(26).