بسم الله الرحمن الرحيم
عبد الغني خلف الله في:
ريبور تاج – رواية ..
الحلقة الأولي
الطبيب البارع همام خرج من رحم المعاناة وقرر ألاّ يعود اليها ابدا..خاض في طفولته معركة رهيبة ومثيرة..اسمها البقاء علي قيد الحياة وكانت له أساليبه وألاعيبه الخاصة به..قاوم الملاريا والبلهارسيا واليرقان ..وعندما قبلوه بالمدرسة الوسطي وأودعته الحكومة إحدى داخلياتها ..شعر أنه قد وصل إلى بر الأمان .. ونشأته تلك جعلته يكره الفقر والحرمان .. لذلك لم يشعر في يوم من الأيام أن المرتب الذي يتقاضاه من وزارة الصحة والدخل الذي تدره عليه عيادته الخاصة يلبيان ذلك الافتقار التاريخي للأشياء لديه.. والطبيب همام لم يكن مقتنعاً بعمله كطبيب فهو لا يأبه كثيراً للوجاهة الاجتماعية وليس معنياً بعذابات الناس الغلابة الذين خرج من أصلابهم .. ولعل أكثر صفقة خرج بها من عمله كطبيب هى زوجته المذهلة نهلة وطفلتها ريم التي تخطو أولى خطواتها فى الثانوية العامة ..
وفي أمسية رائعة ناعسة فجر الدكتور همام رغبته بعدم التوجه للعيادة وأعقب ذلك بأن أعلن لنهلة وريم تخلية نهائياً عن مهنة الطب . نهلة أسقطت كتاباً كانت تقرأ فيه على الأرض وشهقت من هول المفاجأة . كيف يجرؤ الدكتور همام علي مصادرة أحب الألقاب الي قلبها وهي تقدم نفسها لصديقاتها الجدد.. نهلة التقطت جريده من الطاولة التى أمامها وحاولت أن توحي لهم بأنها تتشاغل بالقراءة وهي فى الواقع كانت تداري دموعها التى سالت على خدها دون هوادة..وفات على همام أنها تبكي قال همام وهو يوجه حديثه إليها .. ما تضعي الصحيفة هذه جانباً يا حبيبتي وتشاركينا فى النقاش ..الصحيفة .. الصحيفة ؟؟ طيب ليه ما نصدر صحيفه ؟ ثم ..إسمعوا أيها السادة والسيدات ..لقد قررت أن أصدر صحيفه ..صحيفه ؟ نهلة وهي تهتف بحراره.. وحتنشر صورتي إذا ما فزت ببطولة الجمهوريه للتنس ؟ .. وعلى صفحة كاملة يانهله.. صحيفه ؟ ودى بتجيب حاجه ؟ ريم تساءلت فى براءة ..هذا يعتمد على مستوى الموضوعات التى تنشر بها ومدى التأثير الذى تحدثه فى نفوس القراء ..والله يابابا أنا ما مقتنعه.. لكن لو ماما وافقت أنا موافقه .
الصحافة مهنة محترمة يا ريم ..نهلة وقد تبنت الفكرة ..لكن أيه نسميها ؟ بسيطة يا نهله.. نسميها أخبار الساعة ..لا لا .. ساعة أيه ؟ نسميها مرآة الأحداث . . ريم الواعدة تشارك فى عملية البحث عن اسم ..لا ياريم ده إ سم برنامج فى التلفزيون .. أصلك انت داخله طوالى على كل القنوات الفى الدنيا أنا أقترح نسميها المجهر ..تانى رجعنا للطب ؟ أبدا يا ريمونا .. المجهر معناه أنك تضع كل الاحداث تحت دائرة الضوء .. معناه التحليل العلمى للأشياء . ومعناه الموضوعية ..معناه ..خلاص .. خلاص ياهمام نسميها المجهر .
وهكذا أصبح الحلم حقيقة إذ رأت المجهر النور وتلقفها الجمهور بشغف شديد وخرجت فى ثوب قشيب أدهشت السودان ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها . ذلك لأنها توظّف التكنولوجيا بشمولية مطلقة . فالجريدة تدخل الإنترنت وتطبع فى لندن وتوزع عبر القمر الصناعي (موزه) ..إذ يقذف الموزع الإلكتروني الجريدة فى شكل موزه ..تماماً كما يفعل رماة الكرة البرازيلية . فهى تطير من وسط لندن مروراً بالمتوسط وجبل طارق لتحط الرحال فى الخرطوم .وجريدة المجهر تنمو وتزّدهر باستمرار وتسجل مبيعاتها أرقاماً أصابت الكمبيوتر بأزمة قلبيه.
حقيقة يحق للمرء أن يفخر بوجود صحيفة فى الساحة بمثل هذه المصداقية والأنتشار.. ولكن ماهو السر وراء هذه النجاحات ياترى ؟! هل هي التكنلوجيا التي تستخدمها الصحيفة ام كادرها الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة . فمعروف أن الدكتور همام رئيس مجلس الأدارة ورئيس التحرير وسكرتير التحرير والأستاذ ناجي الذى هو فى الاصل فنان تشكيلي يرسم الكاريكاتير ويحرر الصفحات الرياضية والفنية وعمود المجهر وراء شكواك ويشرف على الشئون السياسية والعسكرية و أخبار الجريمة .. ثم الأستاذ عليان وهو فى الأصل مبرمج كمبيوتر غير أنه أضحي الآن مستشار الشئون العامة للصحيفه وتبقت لنا الرائعة كوثر سكرتيرة الدكتور همام والمحررة الذائعة الصيت ولا ننسي الحاجة صفية والأستاذ عليان .. وتحت الضغط العالمي والأقليمي طلباً للصحيفة أعلنت المجهر فى صدر صفحتها الأولي عن حاجتها لمحررين من حملة (الليسانس فى الاعلام الا أن الاستاذ ناجي أضاف مؤهل الأحياء فى الأعلان لتقليل عدد المتقدمين للانضمام للجريدة ونسي أن فى هذا السودان البلد الواحد ليس بوسعك وضع الناس امام معضلة .فكل مشكلة ولها حل.وكل تخصص يقبل التخصص الآخر. فمثلاً كل السياسين كانوا مهندسين وحقوقيين وعساكر فى أن واحد . كيف ؟ لا أدرى .. وتجد الموسيقار من هؤلاء يحمل دبلوم معهد الموسيقي والمسرح بجانب ليسانس كيمسترى . لذلك لم يكن مستغرباً أن يتقدم سبعة أشخاص من حملة الليسانس فى الأحياء والأعلام لملء الوظائف المعلن عنها.. الدكتور همام أسقط فى يده فدعا لأجتماع عاجل لمجلس الأدارة وهيئة التحرير للتفاكر حول الطريقة المثلي التى يتم بها استيعاب العدد المطلوب من بين هؤلاء السادة.. وخرج الاجتماع بضرورة أخضاع المتقدمين لامتحان تحريرى وتم تكليف الأستاذ ناجى والأستاذ عليان بوضع أسئلة الامتحان وذكرهم الدكتور همام بأن يكون الامتحان قلوبال ومتعمق فتقاسما الأسئلة بحيث يضع الأستاذ ناجى اسئلة التاريخ والجغرافية والعلوم والأستاذ عليان أسئلة الأعلام والشئون السياسية والاقتصاد.