أين يسكن الشعر؟
الإجابة على هذا السؤال تلزمنا تحديد عنوان الشاعر الجغراوجودي، وبالفهم السارتري على وجه الخصوص.
فأين يقيم الشاعر... بل هل يقيم الشاعر – خارج حيز الشعر – قبلها، لنسأل عن عنوان له؟
هل أحرف السؤال عن مقصده بهذه الطريقة...؟ الذي أنا متأكد منه هو أن الشاعر لم ولن يقيم في بيت النقد... وأيضا ليس في بيت أي من نقاد الشعر.
هل هذه المقدمة ضرورية لكي أقول إن ثمة شقة بين النقد والقصيدة، و إن ثمة حالة من تمرد الشعر على بيت طاعة زوجية النقد؟ وبصياغة ثانية إن فكرة تسلط الزوج التي يمارسها النقد على القصيدة (هل تسمية الشعر بها – القصيدة – خطأ في النحت لا أكثر؟!) ليس من عقد يثبت وقوع الزواج بينهما في غير مخيلة النقاد، لا لأن القصيدة ترفض قيد الزواج وحسب، إنما لأنها بلا هوية جنسية من الأساس.
الشعر فتح (بالمعنى الكوليانالي للكلمة)، وأرستقراطي (بالمقصد الملكي للمصطلح) يفرض ولا يفرض عليه.. ولكي نقف على حيثيات هذه الفكرة، أرى انه من الضروري أن نحسم أمر ما نقصده بمفردتي شعر وقصيدة في معرفياتنا وفهمنا المرجعي (الثقافي) لهما.
كلمة قصيدة، وفق الفهم والثقافة العربيين تدل على الشكل الهندسي (الجمالي)، كما درجت عليه الذائقة التقليدية للإنسان العربي؛ وأعتقد ان تأنيثها (كدال على أوجه التعبير النفسي والفكري) يجيء كعنصر تفخيمي لوقعها، انسجاما مع باقي عناصر الجمال التي تدل عليه (في مواجهة شراسة الذكورية) التي كانت تحكم عناصر الفهم الثقافي البدوي (كالمرأة والناقة والفرس) بما تنطوي عليه هذه المسميات من أوجه الضعف والغضاضة وقابلية التوليد.. وهي بهذا المعنى أيضا، دال على التقنين الذي ينطوي على الثوابت والمحددات المعيارية لشكل ذلك الجمال وحدوده التي إن خرجت عنها – القصيدة – لا تعود أو تعد منها.
أما مفردة شعر (الذكر) فكانت تحمل معاني سلطة التجنيس الأبوية الجامعة وسجل ثوابت القصيدة ومرجعيتها التوسطية لدى سلطة الذاكرة الجمعية، باعتباره المرجعية التدوينية والفكرية لثقافتها وأوجه تكريسها الذاتي والمرجعي، بالمقصد الفلسفي الاصطلاحي هذه المرة.. وعند هذه العتبة يتحتم علينا التوقف لتقرير معنى الشعر المقصود بهذا المفهوم وفق الفهم الحديث لمعنى وحدود ودور الشعر..
في رأيي إن الشعر بهذا المعنى هو ما نستطيع حصره بفهم المدونة التوثيقية لأوجه النشاط العملي والثقافي والفكري للمجتمع العربي (الشعر ديوان العرب!) وهو النظم أو التدوين المكتوب بثوب القصيدة الذي توارث سكان جزيرة العرب على تسجيل أوجه نشاطهم به، عندما كان التدوين شفاهيا ويحتاج لأدوات تسهل عملية حفظه في الذاكرة، ذاكرة الأشخاص.. وهو الأسلوب الذي توارثه العرب على كر أيامهم وحتى إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث درجوا على نظم معارفهم في شكل الشعر، وحتى بعد حصولهم على وسائل وأدوات التدوين والكتابة، ولعل ألفية ابن معطي و ألفية أبي حيان النحوي وألفية ابن مالك ومقامات بديع الزمان وسيرة بني هلال وألفية ابن سينا في الطب و ألفية السيوطي في الحديث وغيرها خير شاهد على ما نقول.. طبعا هذا لا ينفي تراث القصيدة العمودية كشعر خالص وفنيته وشعريته، وخاصة في مرحلتيه الجاهلية والعباسية.. ولكن هذا التراث كان محكوما بقوالب وأعراف ما عده الفراهيدي قوانين حكم بها الشعر، منعت القصيدة من التطور والخروج على تلك القوانين التي حاربت الابتداع الذي هو أهم عنصر في تشكيل القصيدة وحسابها على فن الإبداع من الأساس... وبالضبط هذا ما يقودنا إلى تحديد معنى القصيدة الذي نراه مجسدا في القصيدة الإشراقية أو الكونية التي ولدت من إفاضات الشاعر الفرنسي رامبو، في أنصع صور تمثلها.. هل هذا يعني ان القصيدة الإشراقية – قصيدة النثر على وجه التخصيص (القصيدة الحديثة الخارجة على قوانين القصيدة القديمة) تنفرد بساحة الشعر؟ وماذا عما عداها من تراث القصيدة العمودية التي يزيد عمرها (الذي وصلنا على الأقل) على ألفي عام؟
القصيدة دفق ومتغير وفعل انقضاض تجريفي على بنية السكون والربض على منسأة الوجوم.. القصيدة ليل يؤجل صباحات التسليم في سروال رامبو .. القصيدة فزع الى جنون اصطياد نجوم السماء و أحلام ميديا ونبش في جسد ارتعاشات كزنتزاكي... بحثا عن مشاكسات زوربا وحرائق حضوره في لوثة العبارة,,, وجفل الحصان الذي يسكن شحوب السؤال المعرش على مساءات الهمز بحبر السماء.. القصيدة حريق المرافئ التي طال انتظارها وهي تتسكع في زفير الذاكرة.
الشعر اضطرار يا أخفش؟ إذن القصيدة زحف إلى سماء ثامنة لاصطياد النجوم... وهل من جدوى لاصطياد وهم النجوم؟ وبماذا نرصع ليل مواجهة السؤال إذن؟
هل هذه هي القصيدة؟ ربما لا! ولكن ما عساها تكون بغير هذا الشطط والوقوف على الرأس في منتصف طريق البريد الى جسر اللاعبور!
فأين يمكن أن تسكن القصيدة / الشعر تحت يافطة هذا التوصيف؟
في غابة هيدجر السوداء...؟ بل في المركب السكران الذي يواصل ابحاره (من ساعة قفز الأخفش وأبي تمام من على سياج الحديقة الخلفية لشعر العرب) في بحر بلا فنارات بحثا عن بوصلة لوجعه وعن نجوم لسماواته وعن حبر لحنجرته وعن صخرة لحيزومه... ليدق رأسه عليها لا ليربط صوته إليها.
فهل اهتدى النقد (بأدواته التي بين أيدينا) إلى مستوى تطلعات و إفاضات القصيدة الحديثة؟
ولأكون منصفا لأسأل قبلها: هل من طريق للحاق – من قبل أدوات النقد طبعا - بالقصيدة الحديثة وهي (غيمة في سروال)؟
نعم! لأن سروال رامبو كان بألف فتق... رغم أن هذه الفتوق كانت تتفتق على فتوق بمسارب على كل اتجاهات الريح ونداءات كل البحار!
النقد ليس ميزانا لقياس (وزن) القصيدة وتلمس حجم حيزها على دكة منطق بداهة الملموس، إنما هو مقترب لكشف كثافة حضور اللغة في جسد اللغة ذاتها وهي ترسم معالم السؤال وتواجهنا به..، وهذا يعني مرونة وحركية أدواته – النقد – في تلمس إفاضات النص الشعري والسعي للكشف عن إشاراتها ورصف الطريق إلى فضاءات تمثلها ومساحة (الإشكالات /الأسئلة) التي تثيرها في تضاريس الخارطة الثقافية للوعي الجمعي في مبناه الجزئي (الفردي)، كمكون شرطي لمفاعيل الحراك والتثوير وإعادة التشكيل والرسم.
وهذا ليس خيارا اختطته القصيدة الإشراقية او الكونية (قصيدة النثر) لنفسها، (من أجل خلق حالة تميز لنفسها، عن طريق افتعال الغموض، كما يذهب لتفسيره بعض النقاد)، إنما هو نتيجة لجهد هذه القصيدة في نحت أدواتها التي تواكب عملية التطور التكنلوجي والحضاري والثقافي والتعقيد الذي أفرزته على حياة الإنسان.
طبعا مثل هذا التبسيط المخل أطرحه من أجل التقريب فقط، لأنه يتعسف على الشعر ويخرجه عن سياق استقلاليته وخصوصيته وفردية كينونته كفعل إزاحة وهدم! علينا أن نتذكر دائما أن الإجابات وعملية البناء ليست مسؤولية الأدب عموما، والشعر على وجه الخصوص، على أية حال.
فأين أسكن هذا الارستقراطي المفتون بنفسه وفعله؟
في الحديقة الخلفية التي قفز منها الأخفش وأبو تمام، كما أسلفنا... والسؤال الذي يواجهنا بعد هذا التقرير هو: من رسم أبعاد هذه الحديقة ومن نحت مفاتيح مغاليقها؟
هذا السكن فرضه النقاد أولا والذاكرة الجمعية ثانيا وثقافة الأيديولوجيا وجهدها السياسي ثالثا... وجهد هذا الثالوث لتدجين الشعر وكبح جماح عناصر الثورة فيه، لا يفهمها هذا الثالوث إلا كعنصر تغيير سياسي..، و إلا فالشعر نكد بابه الشر – بحسب الأصمعي – وهذا الشر يسكن سروال ارثر رامبو وهو يرسم فصل جحيمه ونبوءة المتنبي وتمرد عروة ابن الورد وسخرية الماغوط... وكل كلمة لا قالها شاعر وصعلوك في طريق صعوده إلى سماء موته.