تقنية المعلوميات
وعلم النفسالافتراضي
I
(هنا نص محاضرة ألقيت يوم 27-8-2010 أحببت أن يستفيد منه أهل الواحة الكرام)
يشهد عصرنا تحولا لم يعرفه أي عصر من العصور السابقة، ويرجع هذا التحول إلى اكتشاف الإنسان لغة جديدة تختلف عن كل اللغات التي عرفتها البشرية، لغة ليست للتواصل بين البشر، بل للتواصل بين البشر وما ابتكره من آلات وبين الآلات والآلات سميت باللغة الرقمية لاعتمادها حروف الأنظمة العددية واختزالها تلك الأنظمة إلى أبسطها وهو النظام الثنائي الذي يعتمد الصفر والواحد!
وبعودة إلى تاريخ صناعة الحواسيب نجد أن أول من حاول تصميم آلة تحليلية شخص يسمى (1792-1871) Babbage في بداية القرن التاسع عشر. فكر هذا الشخص في آلة تتكون من ثلاثة عناصر : الخزان وهو ما يسمى الآن بالذاكرة، والمعمل سمي لاحقا بالمعالج ثم ضم عنصره الثالث مجموعة من نماذج الحركة وهو ما نسميه الآن برنامجا. غير أنه مني بالإخفاق لعدم توفر الكهرباء والعدد الدقيقة لإنجاز مشروعه. وكان على العالم انتظار Hollerith(1860-1929) لترى النور أول آلة حاسبة تستخدم البطاقات المثقبة. وفي سنة 1924 انضمت المؤسسة التي أقامها إلى شركة IBM ثم تسارع تطور التقنيات منذ 1958 بظهور التنزيستور وانطلق ركب التقنيات الرقمية نحو ما وصل إليه اليوم بسرعة مذهلة.(1) شكل الانسان من تلك الوسائل التي بدأت بسيطة قالبا صب فيه كل حيله ومعارفه الحرفية وبوجود حالتين لا ثالثة لهما في تمرير السوائل والهواء والتيار الكهربائي عبر القنوات والموصلات المعدنية، فقد وجد تطبيقا للقواعد المنطقية، بنيت عليها أسس تقنياته كلها. ثم رجع إلى تدليل الصعوبات التي واجهته في جعل الآلة تتحرك ذاتيا فجزّأ الحركة في الوحدة الزمنية معتمدا على الحالة الطبيعية للجسم الحي إذ وجد أن لا حياة بدون نبض فصنع القلب النابض لكل آلة ذاتية وهو عبارة عن مولد نبضات سماه الساعة وبدأ يسرّع نبض تلك الساعة حتى وصل به إلى ما فاق ما تدركه الحواس بملايين المرات حيث وصلت سرعة الحواسيب الحالية إلى 4000000000 نبضة في الثانية (4GHz) بينما لا تستطيع العين البشرية تمييز الحركة إن تجاوزت 16 نبضة في الثانية! وبذلك استطاع أن يترجم الأصوات والصور إلى اللغة الرقمية وولد عصر جديد هو عصر التقنيات الرقمية. وفيه شهد العالم التحول المبهر على المستويات الفردي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي؛ حيث غزت تقنيات المعلوميات كل مجالات حياتنا العلمية والفكرية والدينية والفنية والثقافية والصناعية. وقد باتت الضرورة تفرض نفسها علينا لننظر في ما أنتجته هذه التقنيات الحديثة وندرس أثره على الإنسان في العصر الحالي وما يمكن أن تتمخض عنه التطبيقات في المستقبل القريب على أقل تقدير. ذلك، لأن النشء وما يحيط بتربيته من تحديات، يضعنا أمام مسؤوليات جسيمة مفروضة على مجتمعنا ولم تنشأ منه، ونحن لا نمتلك في مواجهة كل التحديات سوى ما خلفه لنا سلفنا من قيم وأخلاق هي أغلى ما سيحاسبنا عليه خلفنا إن أضعناه و سيحاسبنا عليه ربنا إن فرطنا فيه، فهو أقوى سلاح لنا في معترك الحياة نحن ملزمون شرعا وقانونا أن نورثه للأجيال القادمة.
وقد دخل الإنسان عالما مدهشا غريبا على العقل البشري منذ أواسط القرن الماضي؛ عالماتسوده حُمى التسارع التقني، تَوّجته ثورة الاتصال خلال العقد الأخير منه. مما جلب تحديات جديدة بدتْ تواجه الفكر الإنساني الذي اعتاد على سيرالفنون والثقافات على منعرجات الحياة البطيئة في تشكّل ألوانها، وإفصاحها عن أسرارتفاعلاتها التي كانت تطمر غالبا في غياهب تاريخ ظل يفتقر إلى الموضوعية لمئاتالقرون !
ووجد المجال الإبداعي في التقنيات الحديثة فرصة للتوسع والانفتاح علىمشارب عديدة ومختلفة، فأُخذ بنوع من النشوة أفقدته التوازن تحت تأثير موجة "الوسائطالمتعددة" بما حملت من صور وأصوات وبما أتاحت من وسائل مهّدت الطريق أمام انتشارسريع للإنتاج الإبداعي بكل أصنافه. وبدأنا نشهد تسارعا يلبس تداول المعلومات بينبني البشر، ويمد تأثيره في حياة الناس إلى مدى لايزال مجهول النتائج ... أصبحالناس يبنون مجتمعا افتراضيا لا يتطلب الانتماء إليه أكثر من تعلّم الضغط على زرّتشغيل جهاز الحاسوب، وتحريك "الفأرة" على بساطها الناعم، بل تعدى اليسر إلى أبسط منذلك! وأشخاص هذا العالم أحرار في التعبير عن ذواتهم وآلامهم وآمالهم. يرتبطونبعلاقات قد ترقى إلى المستويات المبشّرة بغد سعيد للبشرية، وقد تتدنى إلى هوة لاقرار لها في مستنقع أبشع من أن يتصوره ذو عقل.
إلا أن الصورة المتفائلة التي نحلم بها من السلموالمحبة والتضامن، والتي نشأت بمحض إرادة كل من الأفراد الافتراضيين سعيا وراء تكوين المجموعةالمتآلفة –حسب رأي الأفراد- ما تلبث أن تستجيب للنزغ الدفين من حاصل العيوبالموروثة من عالم الواقع، فتخبو شعلتها بفتور الحماس الجماعي الناشئ عن خصائصسيكولوجية الجماعة، وتتبخر إرادات الأفراد المشتركة في عالم لا محدود من العواملمنها مايحدث أثرا واضحا علىالمجموعات المؤتلفة حول محور فكري أو أدبي ما، لأن سهولة التجول من موقع إلى موقع أو منتدىآخر يعتمد شكلا دعائيا أكثر جاذبية أو يضم مجموعة أكثر نشاطا في عملية التفاعلبين أفرادها، تستأثر باهتمام الزائر وتجعله يميل إلى الدخول في جو أوسع وأرحب منالتواصل مع أنداده الافتراضيين. وهذه ميزة لا وجود لها في العالم الواقعي إلا ضمنحيز ضيق... إذ ليست هناك قيود تفرض على المبدع – المؤلف – ولا على الزائر الافتراضي إلا تلكالتي يفرضها على نفسه مع الاعتراف بأن شخصية المبدع تتسم بالنّزوع إلى التحرّر من القيود وإلى التحليقبأبلغ معاني الحرية في فضاء أرحب وأوسع، فالمجموعة التي يخيم عليها جوّ الرتابة بينكثير من الخطوط الحمراء وتفتقد عنصر الدهشة في ما يُتداول بين أفرادها، وتصبح قيدامن الروتين في نظر الشخص الافتراضي مما يجعله في بحث دائم عن فضاء فسيح لا قيود فيه ولا مسببات للملل. ولم يسجل التاريخ في السابق أرحب من فضاء التفاعل الافتراضي الذي نعيشهاليوم، فقد أدِنت الشبكة بعصر انهيار الحِجْر الذي كان مفروضا على التعبيرالفني وبثّت روح الآنية والحيوية في انتشار الخبر، ومهّدت طريق المعلومات إلى متناول من يطلبهافحوّلت العالم المترامي الأطراف إلى غرفة، وصنعت في الأرضفضاء يموج بأنواع الحوارات واللقاءات والمواعيد والندوات المفتوحة لمختلف الأغراضوالمآرب البشرية بما فيها من سامي الأفكار وسخيف الأقوال والتصرفات، فبانت علائمحرية لم يعهدها البشر من قبل في اختيار مشربه في خضم الزخم الهائل مما يعرض في سوقلا أول لها ولا آخر...
غير أننانجد العالم الافتراضي قد ورث من عالم الواقع كثيرا من الظوهر السلبية حيث ظهرالقراصنة والنصّابون إلى جانب المفكرين والأدباء والفلاسفة؛ مما بات يدعو إلىالتفكير في سنّ قوانين لتنظيم سلوك المجتمع الافتراضي للحدّ من الظواهر السلبيةفيه! و ستظهر إشكالية جديدة تتمثل في تحديد الشروط اللازم توفرها في من يحق له وضعالقوانين والإجراءات والمساطر والجزاءات الرادعة لمن يطلق عليهم اسم المخالفينللقواعد والخارجين عن خطوط النظام الافتراضي. ومثلما تعوّد الفلاسفة والمفكرون الغربيون اعتماد الكتب المقدسة ترجع إلى كتاب واحد وردت فيه والصايا العشر، هذه وصايا سماها صاحبها المدعو "آلن ريو" بالوصاياالعشر لمعرفة "كيف نعيش افتراضيين أعدها واعتمدها معهد Computer Ethics Institute وهي منشورةبموقع خدمات الشبكة وهي عبارة عن ثمان لاآت يتلوها أمران (2):
2 -1 لا تستخدم الحاسوب لتزعج غيرك
2 -2 لا تشوشعلى أعمال غيرك الرقمية
2 -3 لا تعبث بملفات الآخرين
2 -4 لا تستخدم الحاسوبللسرقة
2 -5 لا تستخدم الحاسوب لشهادة الزور
2 -6 لا تستخدم ولا تنسخ البرامجمالم تدفع ثمنها
2 -7 لا تستخدم مصادر المعلومات المملوكة لغيرك دون إذنمنه
2 -8 لا تنسب لنفسك إنتاجا فكريا مما أبدعه غيرك
2 -9 عليك أن تقدرالآثار الاجتماعية للبرنامج الذي تكتبه
2 -10 استخدم الحاسوب بطريقة تؤكد لك التقدير والاحترام
لم يبيّن صاحب هذه الوصايا الكيفية التي تطبق بها في الحالات المختلفة التي تنجم عن التفاعلات البشرية المتباينة، وذلك لهدف التمويه واللعب على الألفاظ وفتح باب اختلاف التفسيرات حسب الحالات التي تخدم مصالح من يسخّر التقنيات لاكتساح ساحة السوق الاستهلاكية.
ويبقى العالم الافتراضي في جدّته مُحيّراً ومدهشا آخذا فيالاتساع ليستوعب كل النشاطات البشرية وقد يشمل الكائنات الذكية المفكرة في الكونكله يوما ما...
هنا تبرز ضرورة وجود علم يدرس التفاعلات البشرية في عالمها الجديد الذي أضحى افتراضيا مثلما دعت الضرورة لوجود قواعد قانونية نتظم مجال الحريات وكيفية ممارستها في العالم الجديد وكذلك تستدعي الحالة رسم خطط لتعليم الأطفال وتربيتهم وإعداد برامج أخرى لتكون الجسر الواصل بين العالم الافتراضي وعالم الواقع. ويهمنا هنا التركيز على علم يدرس سلوك الشخص الافتراضي في تفاعله مع الأفراد والجماعات عبر الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). ويعدّ آليات مناسبة لفهم التطابق والفوارق إن وجدت بين أنماط السلوك في الواقع وأنماط السلوك البشري في العالم الرقمي.
فعلم النفس الافتراضي يتناول دراسة الشخصية الرقمية كفرد يدخل عالمه الجديد مزودا بمعارف ومهارات استقاها من عالم الواقع؛ أقلها قراءة وطباعة اللغة التي يتعامل بها الفرد مع أشباهه على الشبكة ومهارة استخدام لوحة المفاتيح والفأرة. بل إن هناك من التطبيقات التي تستغني عن بعض حواس الفرد الطبيعي مثل التجربة التي مرت بها الانتخابات في البرازيل سنة 1996 بمدينة سانتا كاتارينا حيث درست إمكانية مشاركة الطاعنين في السن والأميين وفاقدي البصر في الانتخابات عبر منظومة رقمية كانت نتيجتها أن 25 بالمائة من العميان استطاعوا الإدلاء بأصواتهم للمرشح الذي يؤيدون نجاحه في الانتخابات وأقل من 50 في المائة من الطاعنين في السن تمكنوا من التصويت لصالح مرشحهم بينما ألغت المنظومة باقي الأصوات المعبر عنها بطريقة غير متوافقة مع برنامجها.(3)
وقد نبعت تسمية دراسة هذا المجال "علما" من ضرورة وجود وسائل تدرس سلوك الفرد الرقمي – الشخصية الرقمية أو ما اصطلح على تسميته بالشخصية الافتراضية – اعتمادا على الإحصاء وطرق علم النفس التجريبي وما وصلت إليه الفروع الأخرى لعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم القانونية، وما أسفرت عنه البحوث في العلوم الإنسانية من نتائج خلال القرن الماضي، وما تنبأت به من تأثير التكنولوجيا على حياة البشر في تفاعلهم البيني ومع الآلة سواء كأفراد أو جماعات.
وقد يكون لهذه المحاولة نصيب في تفسير سلوكات الناس في العالم الواقعي التي ما زال العلماء يلقون حولها بافتراضاتهم آميلين أن ينير دربهم مجال التجربة. ولا أحد ينكر ما يواجه علم النفس من صعوبات في دراسته للسلوك البشري نتيجة تعدد المتغيرات من جهة، وعدم ثبات الظواهر أمام المجرب – الذي يتأثر هو أيضا بما يجري في ظروف زمانية أو مكانية للتجربة من حيث هو إنسان أيضا – من جهة أخرى.
دمشق الافتراضية
يشير الدكتور أديب عقل أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق. إلى أن استخدام الانترنت كوسيلة للتعارف والتواصل الاجتماعي وتكوين صداقات جديدة أضحى حقيقة نشاهدها كل يوم،" ولايمكن أن نوقف هذه الظاهرة" ويضيف عقل" عندما يكون هناك تواصل وتوافق في الحوار فهناك عملية التقاء في وجهات النظر يعنى هناك قواسم مشتركة بين الشباب عن طريق الانترنت. لقد زرت العديد من مواقع الانترنت في مقاهي الانترنت وشهدت نوعية الحوار بين الشباب الحوار به جانب انساني وجانب أخلاقي وجانب قيمي". ويتابع " هذا التواصل ايجابي وهناك من يحارب هذا التواصل في مجتمعنا لان في مجتمعاتنا هناك عملية ضبط اجتماعي للشباب، فعن طريق الانترنت أصبح الشاب والشابة يتحاوران دون عملية احتكاك لكن عمليا هناك انعكاسات ايجابية لهذا الأمر فلذلك الأمر مستمر ولا يمكن أن نوقف هذه الظاهرة".(3)
سيجد الباحث في العالم الرقمي بعض أنماط السلوك التي ستغمره بأسئلة كثيرة حول الكائن البشري الذي يتعامل مع أشباهه عبر نافذة صغيرة تتركز عليها ضوضاء رقمية عارمة تتوافد من كل بقاع العالم؛ فهو يدخل عالم الضوضاء هذا بإرادته الحرة، باسم وصفة يختارهما بنفسه، مع إمكانية تطابق الهويتين الرقمية والواقعية أو عدم تطابقهما. وبذلك يكون الإنسان يصنع عالمه في العصر الحالي. ويربط في هذا العالم علاقات مع بني جنسه قد تكون سببا في متاعبه. --- يتبع---