كان يشق طريقه كعادته كل صباح..متوكئاً على عصاته المعدنية وهو يكاد يعرف موضع كل حصاة على الأرض..تلتقى أذنه كل حين بتحية من أحد أصدقائه..يردها ويستمر فى السير.. قاصدا" ما يعده بيته الثانى..أو الأول ان تحرينا الدقة..كان هذا المكان الصغير الذى يكتظ بالكتب والذى أورثه له والده هو المأوى لروحه المتعبة ..لقد تعذب كثيراً بوجوده بين أوراق يلمسها
ويحسها..ويقف منظاره الأسود حائلاً له دون قرائتها..ولكنه كان يهنأ لمجرد وجوده فى هذا المكان..وكان يكره أن يأتى اليه أحد ليبتاع منه كتاباً..فقد كان كمن يبيع أولاده ..أو جزءا
من كيانه..
اليوم يبدو مختلفاً..كل شىء مختلف..انه يشعر بهذا..حتى خطواته المتثاقلة يشعر بها فى خفة طائر..كان يعرف أنها ستأتى اليوم..وكان مجردالانتظار يكفى ليسكب فى قلبه قطرات الأمل..انه فى واقع الأمر لا يعرف عنها شيئاً إلا ..صوتها..كانت تأتى كل حين وتسأل عن كتاب ..فتمتد يده فى لحظات ويأتى به..ويشعر بالسؤال يكاد يقفز من شفتيها..أنى لك هذه القدرة؟؟ ويشعر بها تبتلع سؤالها وتمضى..ولكنه اليوم لن يدعها تمضى..انها البريق الجميل الذى
يتمنى أن يشعر به..ويجب عليه الا يتخاذل فى الاقتراب منه..
وجد صديقه فى الانتظار..تاركاً متجره الضخم المجاور لمكتبته ليشرف على العامل الذى يعاونه فى تنظيم الكتب ..ما أوفاه من صديق وما أروع ما يفعله لأجله..انه ينهل منه حب الحياة..يروى له كل شىء..يجعله يرى ويسمع ويحس..يقرأ له ..ويدخلان معا فى مناقشات تزيده احساساً بحياته..ولكنه اليوم لا يريد أن يسمع الا شعراً..وامتدت يده الى ديوان أثير لديه..و دفعه الى صديقه
قائلاً له اقرأ ولا تتوقف..
مرت الساعات دون ان يدرى..وأفاق على احساسه بوجودها..احس انها تقف قريباً منه..وصمت صديقه للحظات..فقال له..لا تتوقف كان يريدها ان تسمع الكلمات التى طالما بثت فى قلبه الحب والاملوطالت وقفتها..ربما كانت تنتقى كتاباً..أو أن الحيرة بين اثنين تتملكها..واحس بها تقترب ..وصمت صديقه ثانية..صمت الجميع ولأول مرة ..شعر أن وجودها يثقل قلبه..و اشتد الظلام فى عينيه وتداخلت الكلمات المقفاة فى ذهنه..كان يحس شيئاً يكرهه ..يحس شيئا يتمنى الا يحسه..والتقطت أذنه همستها ..الى غيره..وشعر لأول مرة فى حياته أن هناك لغة للعيون.. لا يفهمها ..استأذن صديقه منه منصرفاً..مصطحباً معه همساتها ..ووجودها..ولأول مرة تمنى لو لم يكن يبصر ..بقلبه..