القصة الشاعرة - الجزء الثاني / للدكتور خالد البوهي
أساتذتي الكرام
إخوة الإبداع الأعزاء
تشرفتُ من قبل بنشر الجزء الأول من إحدى دراسات الشاعر و الناقد الدكتور خالد البوهي حول القصة الشاعرة ،
و كانت على الرابط:
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...هي?highlight=
و هنا اسمحوا لي بنشر الجزء الثاني من هذه الدراسة
الموسيقى فى القصة الشاعرة
القصة الشاعرة تلتزم بالقواعد الموسيقية العروضية، والتى نرى أنها ضرورية لبنائها الفنى السليم، فليست الموسيقى فى هذا الجنس الأدبى الجديد مجرد شكل، لكنه يعبر عن مضمون عميق.
ونفصل القول فنقول:
إن القصة الشاعرة عبارة عن نفس متصل... هذا الاتصال تؤكده الدفقة التفعيلية المتواصلة، فتوالى التفعيلات المتشابهة يرسخ اتصال هذا النفس القصصى الذى يجعل النفس تتشبع بالتفعيلات المتواصلة، والتى هى فى حقيقة أمرها تفعيلة متواصلة لا تنتهى إلا بنهاية النص، وهذه هى الفلسفة التى تقوم عليها القصة الشاعرة.
ولذلك فنحن نرى وجوب استخدام البحور الصافية، لأن البحور المركبة لاتساعد على اتصال الدفقة الحدثية، كما لايصح عندنا المزج بين البحور، أو المزج بين الشعر والنثر.
مع ملاحظة جواز وضع مفتتح أو خاتمة لنص القصة الشاعرة من أى جنس أدبى آخر، ويستوى فى ذلك كون ذلك المفتتح أو الخاتمة من الشعر أو من النثر بشرط عدم جواز ارتباطه بصلب النص - وإن كان من الممكن أن يوضحه.
ونشبه هذا الأمر بجعل هذا الفاصل الشعرى أو النثرى كالصفة فى الجملة الخبرية - لها وظيفة تعبيرية، ولكنها غير أساسية فى بناء الجملة، و نرى أنه إذا اختل هذا الشرط - فصار هذا الفاصل ركنا ً من النص، وأصبح كالمبتدأ أو كالخبر- يفسد التدوير القصصى، وخرج النص بذلك عن كونه قصة شاعرة.
ونحب أن نحيل القارئ إلى نص محمد الشحات محمد (تسبيحة ألوان الشفرة) ، والذى ختمه بفاصل بديع من الشعر التفعيلى.
وبعد كل ذلك أعتقد أننا لن نختلف على أهمية التدوير فى القصة الشاعرة.
التدوير فى القصة الشاعرة
ارتبطت القصة الشاعرة بالتدوير العروضى، وقد تساءل البعض عن جدواه وقالوا ما الذى يمنع من وجود التسكين والقافية داخلها مدعين بذلك امتلاكهم لكثير من القصص الشاعرة، والتى يعتبرونها قصصا ً شاعرة برغم تخلل التسكين والقوافى الداخلية فى حشوها.
ونحن نقول إن هذا الفهم المغلوط ترتب على عدم ادراك أهمية التدوير الذى تمسك به كاتبوها... كما كان نتيجة النظرة السطحية للقصة الشاعرة، والتى كانت نتيجة حتمية للخواء الثقافى الذى نعانيه.
التدوير يعنى اتصال النفس الشعرى القصصى، لأن القصة الشاعرة متماسكة أشد التماسك، والنص المتواصل هو الذى يحقق الوحدة العضوية، أما القوافى فلها وظيفة هامة... ألا وهى قطع النفس الشعرى السردى، والشئ نفسه يقال عن التسكين فى الشعر الحديث ، هذا التسكين قد يكون فنيا ً، كما قد يكون استعراضيا ً أونتيجة لعدم امتلاك الشاعر لأدوات الشعر.
فمتى يكون القطع فنيا ً؟ ومتى يكون استعراضيا ًضعيفا ً؟
يكون فنيا ً حينما تضيف القافية إلى النص الشعرى...
فعندما يقول صلاح عبد الصبور:
( يا صاحبى إنى حزينْ )
انظر إلى النون الساكنة أو المسكنة التى تضيف إلى النص ثم يقول:
(طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهى الصباحْ)
لماذا لم يقل ( طلع الصباحْ / فما ابتسمت ولم ينر وجهى الصباحْ ) مع أن بحر الكامل يصلح فيه الوقص، ومع ذلك فأنت ترى أن الوقف قد أضاف إلى المعنى، فالوقف على الصباح الأولى يشير إلى أهمية طلوع الصباح، وهذا أمر لم يرده الشاعر الذى يريد أن يتكلم عن فلسفة الحزن ودوامه على الرغم من طلوع الصباح، ولذلك كان لا بد من اتصال الدفقة الشعرية غير المقطوعة بتسكين.
ثم انظر إلى أمل دنقل حينما يقول:
المجد للشيطان .. معبود الرياحْ
من قال "لا" فى وجه من قالوا نعمْ
من علم الانسان تمزيق العدمْ
من قال "لا" .. فلم يمتْ
وظل روحا أبدية الألمْ !
انظر إلى التسكين وإلى القوافى الداخلية ستجدها تضيف إلى النص إضافات فنية بهذا القطع وبهذا الاتصال للنفس الشعرى، فكل وقوف يضيف للنص ، ولا يأخذ منه شأن أمل دنقل فى أكثر قوافيه وتسكيناته، أما الجميل هنا بل والرائع فهو الاتصال، وانظر إلى:
( من قال " لا " فى وجه من قالوا نعمْ )
تجد أن دنقل قد وصل النفس الشعرى برغم جواز القطع عروضيا ً، ولذلك كان من الممكن أن يقول
( من قال لا / فى وجه من قالوا نعمْ )
فدنقل يقصد ان المجد يكون للذى يقول "لا" معارضة وتحديا لمن قالوا نعم، وليس لأجل مطلق المعارضة التى تمثلها (لا)، دنقل هنا يتحدث عن التمرد فى زمن الخنوع.
ولك أن تنظر إلى بدر شاكر السياب حينما يقول:
لأنى غريبْ
لأن العراق الحبيبْ
بعيد وإنى هنا فى اشتياقْ
كان من الممكن أن يقول:
( لأنى غريبْ / لأن العراق الحبيب بعيدْ / وإنى هنا فى اشتياقْ )
فبرغم جواز ذلك عروضيا ً، لكنّ الشاعر يقصد أن يخبرنا عن معاناة الحب، ولو كتبها بالطريقة الثانية لكان قد أخبرنا عن معاناة البعد الذى هو موجود بالفعل كتابع للحب.
أما القوافى الاستعراضية أو الضعيفة فهى موجودة بكثرة فى كثير من القصائد التقليدية، والتى يستنزف الشاعر فيها قافيته مستعرضا ً نفسه الشعرى فيسقط فى الهشاشة والضعف.
والنماذج على ذلك كثيرة عند شعراء القصيدة العمودية.. وهذا لا ينطبق بكل تأكيد على شعرائها المتميزين.
ونماذجه كذلك كثيرة عند شعراء القصيدة التفعيلية الذين كثيرا ً ما يقعون فى التسكين غير المبرر! وذلك لانقطاع نفسهم الشعرى.
ونحن نلاحظ أن التسكين عند شعرائها الكبار لا يأتى إلا ليضيف كما سبق أن أوضحناه عند دنقل وعبد الصبور، أما التسكين بغير مبرر فنى فهذا يضعف النص، أوعلى أحسن الأحوال لا يضيف شيئا ً إلى النص.
لأجل كل ذلك كانت القصة الشاعرة تحتاج دائما ً إلى التدوير، لأنها وحدة متماسكة لا تحتاج إلى تسكين، أو إلى قواف داخلية تقطع النفس الموسيقى المتصل.
لكنّ إخفاق البعض فى إدراك الوظيفة الشعورية والموسيقية للتسكين وللقافية هو الذى أدى بهم إلى الإخفاق فى إدراك أهمية التدوير الموسيقى فى القصة الشاعرة.
الرمز فى القصة الشاعرة
إذا كنا قد اتفقنا على اشتراط التدوير فى القصة الشاعرة فلا بد لنا من اشتراط الرمز الذى يجعل من التدوير قناعاً كليا ً يمسك بتلابيب النص، ولذلك فنحن نرى أن الرمز يقتضيه التدوير فهو لازم من لوازمه.
ونوضح هذا الأمر فنقول:
إن التدوير القصصى كما يشترط تدوير العروض يشترط كذلك تدوير الموضوع، والذى لا يتحقق إلا بوجود رمز وقناع يستبطن الحدث، ويجعل الموضوع مترابطاً ومتماسكا ً.
واختفاء الرمز يؤدى إلى انقطاع التدوير القصصى بالضرورة حتى ولو احتفظ النص بالتدوير العروضى، ويتحول النص بداهة إلى أن يصير شعرا ً تفعيليا ً.
وبالطبع فنحن لا نقصد بالرمز مجرد التشبيهات والاستعارات، وإنما نقصد القناع الكلى الذى يخلق استعارة كبرى، فيصبح النص وقد تكون من وحدات استعارية صغرى مترابطة ومتماسكة لتخلق وحدة استعارية كبرى، وهى ما نطلق عليه القناع الكلى للنص الأدبى.
ولذلك فنحن نؤكد على أن هذا الترابط والتماسك لا يتحقق بغير التدويرين العروضى والقصصى، كما أن التدوير القصصى لا يتحقق بغير الترابط والتماسك الذين يخلقهما القناع الكلى.
الوطن والهوية فى القصة الشاعرة
للوطن والهوية أهمية بالغة فى القصة الشاعرة، فلا يكاد يخلو نص من التأكيد على الهوية، ونحن وإن كنا لانراه شرطا ً لها من حيث المبدأ، لكنـّا نراه شرطا ً يؤكد أصالتها، كما يؤكد خصوصيتها الشديدة ، والتى تقدم إنجازا ً يختلف عما تقدمه فنون الأدب الأخرى.
القصة الشاعرة عبارة عن توليفة ذاتية موضوعية تتجلى من خلال قناع رمزى، فلا ينبغى أن يكون بعدها الوحيد مقتصرا ً على الذاتية التى نراها فى الغنائيات المونولوجية فى أنواع الأدب الأخرى، والتى تؤدى هذا الغرض بنجاح، وهذه التوليفة تتضح بعد قراءة نماذج كثيرة للقصة الشاعرة، وسيتضح كذلك التميز الأسلوبى لهذا الفن الذى يقدم شيئا ً جديدا ً ومختلفا ً... ليس فى الشكل فقط وإنما فى الموضوع.
ونوضح هذا الأمر فنقول:
إن إنجاز قصيدة التفعيلة عند جيل الرواد لم يكن فقط إنجازا ً شكليا ً بالتخلى عن البيت كمظهر خارجى للقصيدة، لكنه كان كذلك إنجازا ً موضوعيا ً فى اقتحام عوالم أخرى كتوظيف أحداث الحياة اليومية...
وكذلك القصة الشاعرة لا يمكن قصر إنجازها على الشكل فقط، وإنما إنجازها موضوعي فى المقام الأول.
ولنا أن نتساءل بدورنا:
هل هذا رد فعل طبيعى لذاتية ما يسمى بقصيدة النثر؟
أم أنه رد فعل رافض لكل ما يحدث لأمتنا من هزيمة وانكسار وضياع للهوية؟
الصحيح أنه كل ذلك.
علامات الترقيم فى القصة الشاعرة
علامات الترقيم من أهم المشكلات التى تواجه المبدع لأنها إما أن تضيف إلى النص، وإما أن تضعفه!!
فلم تعد علامات الترقيم مجرد علامات توضيحية كما أريد لها.
وربما كان هذا الكلام صحيحا ً فى الكتابة العادية كالصحافية مثلا ً..
لكن هذا غير صحيح فى الكتابة الإبداعية التى تزداد عمقا ً بهذه الإضافات من علامات وفراغات هى من أهم أساليب التطوير فى مجال الكتابة الإبداعية.
ومع كل ذلك فالقصة الشاعرة لها تعامل خاص مع العلامات والفضاءات البصرية، والتى تخلق إيقاعا ً بنائياً بصريا ً لا نستطيع تجاهله.
ونفصل القول فى هذا الأمر فنقول:
إن العلامات والفضاءات أنواع:
1. علامات معنى: وهذه تفيد التوضيح مثل الفاصلة، والفاصلة المنقوطة، وعلامات الاستفهام، والتعجب، ومثل الأقواس، والنقطتين العموديتين.. وهذه علامات ليس لها علاقات زمنية، فلا يتم السكوت عليها أثناء قراءة النص وإنما تفيد التوضيح للقارئ.
2. علامات زمن: وهذه تفيد السكوت الزمنى أثناء قراءة النص، هذا السكوت يدل على مرور الزمن... وهى تنقسم إلى نوعين:
· النقط الأفقية ( والتى قد تختلف فى عددها ): وهى عبارة عن سكتة لطيفة يلتقط القارئ أنفاسه، لكنه يقف بدون تسكين، هذه السكتة اللطيفة يتراوح مداها الزمنى القصير بحسب عدد النقط.
· الفضاء البصرى: والذى يفيد سكتة أطول من النقط الأفقية بالنسبة للقارئ، وهذه السكتة تكون كذلك بلا تسكين.
3. علامة قطع: وهى النقطة التى تأتى فى ختام النص، وهى تقطع التدوير القصصى، ومع ذلك فقد تأتى نادرا ً فى وسط النص لتوضيح المعنى، وفى هذه الحالة يحتاج المبدع إلى حرفية عالية كى لا يقع فى قطع التدوير القصصى، وقد لا يستعمل المبدع النقطة فى نصه لإفادة استمرارية الحدث. وانظر إلى (عودة إلى ما قبل لمحمد الشحات محمد) التى يقول فى نهايتها ( أذن لصلاة المغرب.. فتح عينيه.. تثاءب ) فكأن البطل يتكرر منه هذا التثاؤب الناتج من هذا الكابوس الذى يتكرر معه كالهاجس.
ولتوضيح هذه الأمور نود أن ننظر إلى نص غيبوبة سكر للأديب نفسه، والذى يقول فى نهايته
( هز العسكر أرجاء الحجرة..,
أعطونى تشخيص الحالة..,
كانت غيبوبة سكر )
نلاحظ هنا أن الكاتب يستخدم جميع التقنيات البصرية من علامات ترقيم وفضاءات بصرية :
· لاحظ النقطتين الأفقيتين اللتين تفيدان مسافة زمنية قصيرة يحدث فيها فعل العسكر وإعطاء التشخيص.
· ولاحظ الفاصلة التى تنسق بين مقاطع النص.
· ثم لاحظ الفضاء البصرى الذى يفيد مسافة زمنية تدل على التلكؤ فى إعطاء التشخيص برغم ضرب العسكر، وتدل على تأخر تشخيص الغيبوبة برغم وجودها.
· ولاحظ أخيرا ً عدم وجود النقطة فى ختام النص والذى يدل على استمرارية الحدث وهو الغيبوبة بطبيعة الحال.
لأجل كل ذلك... نؤكد على أهمية علامات الترقيم، وعلى أهمية الفضاءات البصرية.. هذه العلامات والفضاءات تضيف كثيرا ً إلى النص، فهى تخلق إيقاعا ً بصريا ً لا نستطيع أن نتجاهله.
لكن لابد لكاتب القصة الشاعرة من المحافظة على التدويرين البصرى والقصصى معا ً.
ولذلك فالمبدع يحتاج إلى حرفية عالية لإتقان التعامل مع هذه الوسائل المساعدة.
وأخيرا ً نؤكد على أن النص قد يخرج عن كونه قصة شاعرة فيصبح قصيدة تفعيلية - برغم تحقق شرط التدوير العروضى - وذلك بسبب قطع التدوير القصصى، وقد يكون ذلك عن عمد.
ولذلك فنحن نقول: إن الصواب هو أن تكتب نصا ً جيداً بفضل علامات الترقيم، والتى من الممكن أن تكون علامة مفرقة بين جنسين أدبيين.
(يتبع)