العروض هبة الخليل. والخليل عبقرية باقية على الدهر. ولد الخليل بن أحمد الفراهيدي سنة 100 للهجرة وتوفي على الأرجح سنة 175 هجرية. وعاش في البصرة. وقد بدأ علم العروض وأتمه.
" وهو الخليل بن أحمد عمر بن تميم الفراهيدي البصري أبو عبد الرحمن، وقد أرجع معظم الباحثين نسبه الفراهيدي إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن مضر الأزد، ويقال له أيضا فرهودي............وتكاد المصادر القديمة تجمع على أن والد الخليل أول من سمي أحمد بعد النبي عليه السلام......ومن صفاته الزهد فقد روي أنه كان من الزهاد في الدنيا والنقطعين إلى الله،... وعندما وجه إليه سليمان بن علي والي الأهواز رسولا لتأديب ولده، أخرج له الخليل خبزا يابسا وقال ما عندي غيره، وأنشد:
أبلغ سليمانَ أنّي عنك في سعة *** وفي غنىً غي أني لست ذا مالِ
حيٌّ بنفسي أني لا أرى أحداً *** يموت هزْلاً ولا يبقى على حالِ
فالرزق عن قدَرٍ لا العجز ينقصه *** ولا يزيدُك فيه حوْل محتالِ
وكان حاد الذكاء قال عنه ابن المقفع :" رأيت رجلا عقله أكبر من علمه "
وهو أول من نهج مسالك جديدة في علم العربية فهو المؤسس الحقيقي لعلم النحو الذي وضعه سيبويه في كتابه بعد أن تلقاه عنه. ثم استغل الخليل نظرية التبادل والتوافق الرياضية كما يقول د. شوقي ضيف في وضع منهج قويم لمعجمه (العين) المشهور. وهو مبتكر علم العروض، ويقول القفطي في إنباء الرواه:" وله علم بالإيقاع وله كتاب فيه، ومعرفته بالنغم ومواقعها أحدث له علم العروض" ومن مؤلقاته كتاب العين : معحم – كتاب العروض : ضاع – كتاب النغم : ضاع – كتاب الإيقاع : ضاع –كتاب الشواهد – كتاب النقط والشكل .وله شعر ولكنه مقل فيه. ومن أقواله:" تربع الجهل بين الحياء والكبر في العلم." (1)
والخلاصة أن الخليل كان عقلة فذة موسوعية عاش عصر انطلاق الفكر الإسلامي وأفاد منه وأفاده.
لكل موضوع مضمون وأسلوب. ولا يشذ العروض عن هذا. وأعتقد أن الخليل في كل تفكيره كان علميا ومتفاعلا مع الأرقام.
1- (6-ص82) نقلا عن ابن فارس في الصاحبي في فقه اللغة:"فإن قال قائل :فقد تواترت الروايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية [لعل كلمة نحو سقطت ]، وأن الخليل أول من تكلم في العروض، قيل له:نحن لا ننكر ذلك بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديما وأتت عليهما الأيام وقلا في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان" ثم استدل على ذلك بقوله "وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفا معلوما اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا أو من قال منهم "إنه شعر" فقال الوليد بن المغيرة، منكرا عليهم"لقد عرضت ما يقرؤه محمد على أقراء الشعر هزجه ورجزه وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئا من ذلك" أفيقول (الوليد) هذا وهو لا يعرف بحور الشعر."
2-الخليل كان يعرف التوافيق والتباديل: عن حمزة الأصبهاني (6-ص101،102) (2) : "ذكر أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرير اثنا عشر ألف ألف وثلثمائة ألف وخمسة عشر ألف واربعمائة واثني عشر"=[412 ,315 ,12] ولم يذكر عدد الأبنية المحتملة للثلاثي فأضفتها.(عدد أحرف العربية=28)
عدد الأبنية
طريقة الحساب
"الثنائي سبعماية ووستة وخمسون"
28×27
756
-----------
[الثلاثي =19656]
28×27×26
656 ,19
----------
"والرباعي أربعمائة ألف وإحدى وتسعون ألفا وأربعمائة
28×27×26×25=
400 ,491
-------
"والخماسي أحد عشر ألف ألف وسبعمائة وثلاثة وتسعون ألفا وستمائة"
28×27×26×25×24
600 ,793 ,11
المجموع
412 ,305 ,12
ومن جميل ما يروى عن الخليل قوله (6-ص119): " أكمل ما يكون الإنسان عقلا وذهنا إذا بلغ الأربعين سنة وهي السن التي بعث الله فيها محمدا صلى الله عليه وسلم ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثا وستين سنة وهما السن التي قبض فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". ومن قوله في صفة البخيل(6-ص115):
كفاه لـمْ تُخلقا للندى *** ولم يكُ بـخلُهما بدعهْ
فكف عن الخير مقبوضةٌ *** كما نقصت مائةٌ سبعهْ
وكـفٌّ ثـلاثة آلافها *** وتسعُ مئيها لـها شِرعهْ
يشير بذلك إلى عقد الأصابع للتهديد في الكفين المتقابلتين.
ويقالُ (6-ص113): إنه أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد هو:
صف خلق خلودٍ [خَوْدٍ] كمثل الشمس إذ بزغت
..........................يحظى الضجيع بها نجلاءَ معطارِ
3-(6-ص106):"…يقال كان للخليل ولد متخلف فدخل على أبيه يوما فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض فخرج إلى الناس وقال إن أبي قد جن فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه فقال مخاطبا له:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني *** أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقتلتي فعذلتني *** وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
ويحكى عن الخليل أنه قال:"كان يتردد إلي شخص يتعلم العروض وهو بعيد الفهم فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه فقلت له يوما قطع هذا البيت :
إذا لم تستطع شيئا فدعه ***وجاوزه إلى ما تستطيع
فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ثم نهض ولم يعد يجيء إلي فعجبت من فطنته لما قصدته في البيت مع بعد فهمه."
وورد هذا الخبر في مقدمة محقق الكافي (12-ص3) على النحو التالي:"يروى أن الأصمعي ذهب إلى الخليل يطلب العروض، ومكث فترة فلم يفلح فقال له الخليل يوما متلطفا في صرفه: قطع هذا البيت: إذا لم تستطع……ذهب الأصمعي ولم يرجع وعجب الخليل من فطنته."
4- ولأبي فراس الحمداني :
تناهض القوم للمعالـي *** لمـّا رأو نحوها نهوضي
تكلّفوا المكرماتِ كدّا *** تكلّفَ الشّعر بالعروضِ
5- يجمع أحرف التفاعيل قولهم "لمعت سيوفنا"
(26-ص26) (3) :"وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي:
ومليحٍ عِلْمَ الـخليل يعانـي *** ليته لـو غدا خليل خليعِ
رمتُ وصلا منه فقال لحاظي *** ناطقاتٌ بأحرف التقطيعِ"
6-(26-ص108):
"كذا القطعُ لكنْ ذاكَ في سببٍ جرى*** وفي وتدٍ هذا وجَهْزٌ له حوى
أقول:يريد أن القطع مماثل للقصر في أنه حذف ساكن وتسكين حرف قبله، لكن ذاك وهو القصر مخصوص بالسبب الخفيف، فيكون عبارة عن حذف آخر السبب وإسكان الحرف الذي قبله. وهذا، وهو القطع مخصوص بالوتد المجموع فيكون عبارة عن حذف ساكن الوتد المجموع وإسكان الحرف الذي قبله. وأنشد ابن الخطيب في الإحاطة لبعض الأندلسيين:
يـا كاملا شوقي إلـيه وافرٌ *** وبسيطُ وجدي في هواه عزيزُ
عاملتَ أسبابي لديك بقطعها *** والقطع في الأسباب ليس يجوزُ"
7-(26-ص215):"وما ألطف قول الشيخ جمال الدين بن نباتة المصري يداعب شخصا يسمى عثمان:
إذا جاء عثمانُ مستخبراً ***عن المتقاربِ وزنا فقولوا
ثـقيلٌ ثقبلٌ ثـقيلٌ ثقيلٌ *** ثـقيلٌ ثقبلٌ ثـقيلٌ ثقيلٌ"
8-(26-ص232):"وقد صرح الجاحظ وهو من علماء اللسان بذم علم العروض فقال:(علم مولّد وأدب مستبرد ومذهب مرذول يستنكد العقول بمستفعلن وفعول من غير فائدة ولا محصول.)ولا حجة في ذم الجاحظ لهذا العلم، فقد مدحه أيضا وإنما أراد بذلك إظهار الاقتدار على جمع المدح والذم في شيء واحد. فقال في مدحه:(هو علم الشعر ومعياره، وقطبه الذي عليه مداره، به يعرف الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليه تبنى قواعد الشعر، وبه يسلم من الأوَد والكسر. وإنما يضع من هذا العلم من نبا طبعه البليد عن قبوله ونأى به فهمه البعيد عن وصوله. كما حكى الأصمعي أن أعرابيا مبتدئا كان يجلس إلى بعض الأدباء وكلما أخذوا في الشعر أقبل بسمعه عليهم، حنى أخذوا في العروض وتقطيع الأبيات ولّى عنهم وهو ينشد:
قد كان إنشادهم للشعر يعجبني ***حتى تعاطوا كلام الفرس والرومِ
ولّيت منقلبا والله يـعصمني *** من التقحّم فـي تلك الجراثيم."
9-(26-ص248):" وقد علمت بذلك أن الوصل مختص بالروي المطلق، أي المتحرك، وأنه لا يكون في الروي المقيد، أي الساكن. ولله در السراج الوراق حيث يقول:
قلت صلني فقد تقيدت في الحبـْ ***ـبِ به والإسار في الحب ذلُّ
قال يا من يـجيد علم القوافي *** لا تـغالط ما للمـقيَّد وصْلُ
10-(4-ص54) (4) عن الطويل:"والقبض في فعولن حسن وفي مفاعيلن صالح، وكف مفاعيلن قبيح عند الخليل، حسن عند الأخفش. وما أحسن تورية بعض الأندلسيين في ذلك:
كففت عن الوصال طويل شوقي*** إليك وأنت للروح الخليلُ
وكفُّكَ للطويل فدتك نفسي *** قبيح ليس يرضاه الخليلُ
11-ومن شعر أبي العلاء المعري :
أ-إذا ابنا أبٍ واحدٍ أُلفيا *** جواداً وعَيْراً فلا تعجبِ
فإن الطويلَ نجيب القريضِ *** أخوه المديد ولم يُنْجِبِ [يَنْجُبِ؟]
ب-بقائي الطويلُ وغَيّي البسيطُ ***وأصبحتُ مضطرباً كالرّجزْ
12-من مقدمة محقق الكافي (12-ص5) :"ولقد هان الأمر لو اقتصر على جمجمة هنا وجمجمة هناك، فليس يضير العلمَ أو الأدب أو الأخلاق في عصر من العصور أن يهون منها بعض الناس وإن كانوا ذوي مكانة ونفوذ، إنما الضير كل الضير أن تكون الاستهانة سمة العصر، وهذا هو البلاء الحاضر الذي ما كنا في حاجة إلى الكلام على فائدة العروض أو الدعوة إلى العناية به لولا تفشيه في هذه الحقبة التي نعيشها."
ومن الغريب أن هذه المادة لا تعطى حقها في مناهج اللغة العربية في معظم ديارها، مع أنها ذات فائدة كبيرة ليس في مجال الشعر والأدب فحسب، بل في مجال تنمية ملكة التفكير، ولعلها أقرب مواد العربية إلى الرياضيات والمنطق.
وقد مر ذكر العروض أمام أحد حملة شهادة الدكتوراة في الرياضيات فلم يعرف ما هو هذا العلم.
إنها دعوة إلى المسؤولين عن مناهج التعليم بأن يعطوا هذا العلم حقه أو بعض حقه، في إطار إعطاء العربية بعامة حقها من العناية.
يقول محقق الكافي (12-ص8) (5): إن الغربيين يرعون العروض أجلّ الرعاية فيقولون فيه ويكثرون القول، وينشرون كتبه يشرحون فيه أصوله ودقائقه ويتابعونه في مراحل تطوره، ويعنون في تقديمهم للدواوين ببيان أوزانها عناية ملحوظة، لأنهم يعلمون حق العلم أن الاستهانة بالعروض ليست استهانة بجملة مصطلحات معقدة، بل هي استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجدان الأمة وأخلاقها."
فإن كان هذا شأن الاستهانة بالعروض لدى أمة ما، فإنه لدى العرب أخطر لأن العربية التي يشكل العروض علما من أجمل علومها هي أداة الأمة في الاحتفاظ بتواصلها مع مقوم وجودها ومعقد أملها للخروج مما تعاني والفوز في الدنيا والآخرة، كتاب الله الكريم الذي لا ذكر لها بدونه.
"لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون." صدق الله العظيم.(الأنبياء-10).
----------------------
الأرقام الواردة كمراجع هي
(1) - بتصرف عن كتاب المدارس العروضية (ص 93-ص120) ، تأليف عبد الرؤوف بابكر السيد، الطبعة الأولى -1985 م – الناشر: المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان طرابلس – ليبيا
(2) -(6-ص82) تعني المرجع السادس في كتابي العروض رقميا وهو (المدارس العروضية في الشعر العربي) للدكتور عبد الرؤوف بابكر السيد ( ص82) = الصفحة 82
(3) - 26-العيون الغامزة – لبكر الدين محمد – تحقيق الحساني حسن عبد الله
(4) - 4 - أهدي سبيل إلى علمي الخليل – للأستاذ محمود مصطفى
(5) - 12– الكافي في العروض والقوافي – للخطيب التبريزي – تحقيق الحساني حسن عبد الله