مدينة غريبة لم أراها من قبل ، جميلة بأحيائها ومنازلها ، شوارعها عريضة ومحلاتها فخمة ، وأنا أسير فيها بلا هدى لا أعلم أين وجهتي وأين أستقر ، وجوه تناظرني وأناظرها تمر أمامي بصمت ، تزيد من حيرتي وخوفي ، أتلفت يمنة ويسرة علني أجد وجهاً مألوفاً أو أسمع كلمة واحدة تشبع فضولي وتريحني من تساؤل يضج في داخلي " أين أنا " .
غابت الشمس وحل الظلام وأنا أتنقل من مكان إلى مكان ، بدون أمتعة ولا مال ولا بطاقة شخصية ، غريبة في مدينة يلفها الصمت والسكون ، تعب وإرهاق يلفني ، أدور وأدور كعقارب الساعة إلى أن نال مني اليأس ، ووقفت أصرخ بصوت عال " أريد العودة إلى منزلي والداتي تنتظرني " كانت دموعي تنهمر ودقات قلبي تتسارع بقوة كي تذيب الجليد المتراكم بمشاعري والدم المجمد بأوردتي ، ورغبة عارمة بالعودة تأبى الاستسلام وتدفعني للمضي قدماً في عالم مجهول لا أرى له نهاية .
كاد الليل أن ينتصف وأنا في صراع ، أفتش عن أمل في ثقب إبرة ، فجأة لمحت مجموعة من الفتيات يقطعن الطريق لا أدري كيف توسطتهن ، واقتربت من إحداهن وسألتها " ما اسم هذه المدينة ؟؟ أبت الجملة أن تنطلق ، حاولت مراراَ أن أتكلم كانت الكلمات تحتضر كأنها مصابة بخدر أو شلل ما إن تستقر على شواطئ لساني حتى تتكسر كموج البحر وترتد عائدة إلى الداخل.
كن يسرعن فأسرع بكامل بقوتي.. وافعل ما يفعلن ، صعدنا سلم رخامي في آخره على اليمين صالة كبيرة وعلى الشمال مصعد زجاجي ، وقفنا على باب الصالة وقمت أنقل نظري ما بين سقفها وأرضيتها وجدرانها ،كان الجو ساحراً تعانق وانسجام بين الثلاثة ، أنوار ذهبية أرخت بثقلها على المكان فبدا كل شيء يتلألأ كسبائك ذهبية ، سيدات ورجال يجلسون على آرائك فاخرة بيضاء اللون ، يرتدون ثياباً فخمة ، كل ما في هذا المكان يدل على أرستقراطية المكان ورواده.
ولجن للداخل وولجت معهن وكلي أمل باكتشاف هوية المدينة ، يد تمسك بذراعي وتبعدني إلى الخارج وتشير لي بأن أتجه نحو المصعد ، رجل طويل يرتدي بذة سوداء قاتمة ، حاولت إفهامه بأنني مع تلك الفتيات وتكسرت الحروف غير آبهة بمعاناتي .
شعرت بيأس شديد وأنا أغادر تلك الصالة ، فقدت الأمل برفقة تؤنس وحدتي في مدينة مطبقة بالصمت والسكون وبعودة إلى مدينة أجمل ما فيها ضجيج عرباتها وسكانها وتغاريد بلابلها .
بدأ المصعد بالنزول وبدأت أقرأ آية الكرسي والمعوذتين بثقل كبير وأطلب من الله بدموع ساخنة أن يعيدني إلى منزلي ، إلى والدتي ، إنها بلا شك ستموت من قلقها عليّ . وطال بيّ النزول وداهمني الشك و الإحباط في عدم العودة فقررت أن أستسلم للقدر .
ها أنا مجدداً في شوارع تلك المدينة أسير وفق الأقدار ، أنتقل من شارع إلى شارع، ومن حي إلى حي وغربة موحشة كظلامها تكتسحني .. وفجأة لاح ليّ من بعيد شخصاَ واقفاَ وآخر يجلس القرفصاء أسرعت نحوهما فإذا بي أمام صبي يلمع حذاء شاب في مقتبل العمر ، يتبادلان أطراف الحديث وما إن رآني الشاب حتى قال له بلهجة عربية وهو يشير بيده نحوي " هذه من كانت مع زوجتي وقت وقوع الحادث وهم بالابتعاد واضعاً سترته الجلدية على كتفه ، وأنا أعيد ترتيب جملته في رأسي بذهول تام.
صرخت أرجوك قل لي :أين نحن الآن ؟ ما اسم هذه المدينة ؟ لم يخذلني لساني وأخيراً دفع كلماتي للخارج !!
رد قائلاً: هذه مدينة الصمت وتابع سيره .
بعد هذا الموقف شعرت بأن جسدي الواهن المثقل بدأت تدب به الحياة وبأن شيئاً ما يتسلل إليه بخفة ، أصبح كريشة طائر تتراقص مع النسيم ويقلبها كيفما يشاء هنا وهناك .
فجأة وجدت نفسي أمام منزلي ، الباب مفتوحاً ، أسرعت إلى الداخل أصرخ بأعلى صوتي " أمي ..أمي " ثم أصابني الجمود وتمتمت من هؤلاء ؟؟ ما الذي يجري؟! أين أمي ؟!
أناس كثيرون يجولون داخله يعبثون بمحتوياته ، وأناس يضعون أغراضاً ليست لنا ،والبعض يحملون أغراضنا ويخرجون !! هممت بالصراخ وغبت عن الزمان والمكان.
لم أدر كم طال بيّ الوقت قبل أن أشعر بدفء يداعب عينايّ و نور يعانق غرفتي وسريري ، اعتدلت في جلستي ومر أمامي شريط الرحلة المشؤومة فجعلني أنتفض من الرعب ، مددت يدي أتحسس نفسي وأتساءل :" هل استجاب الله لدعائي " بخطى ثقيلة قمت أجر أقدامي إلى حيث مرآتي ، أطالع ملامحي ، أنفض عن ذاكرتي غبار زمن مرهق.
خرجت من غرفتي إلى الحديقة الصغيرة حيث اعتادت والداتي تناول قهوتها الصباحية ، لكنها لم تكن هناك ، توجهت إلى المطبخ ، إلى غرفة الجلوس صمت مطبق .. دخلت غرفتها فإذا بها تغط في نوم عميق .. حاولت إيقاظها بهدوء ، عانقتها، وقبلتها بكل الشوق الذي كان في داخلي ، ولكن عبثاً .
تمتمت بخوف " هل يعقل أن تكون قد استقلت القطار العائد بي وانطلق بها إلى مدينة الصمت!!!