________________________________________
1
تعتبر "الرسالة " لدى الجميع وعلى مر السنين بأنها الوسيط الأمثل بين المرسل والمرسل إليه . فكم نبخسها حقها حين نقحمها في ظروف معينة وأسباب محددة .. وهي التي تتجاوز حدود الغرض وتكمل رحلتها الأزلية كالمياه الجوفية عبر قيعان الزمن.
وكم تيقنت بعد ريبة ما كان لها أن تكون إلا دافعا نحو باب اليقين بأن الرسالة كائن مستقل بحد ذاته
وإلا كيف أن المطر رسالة السماء إلى الأرض / وكيف إن الغيوم رسالة البحر إلى السماء....?
وكيف أن الزرع رسالة الأرض إلى الكائنات والكون , وكيف أن العطر رسالة الروح إلى الحواس ..
هي الرسالة : ذلك الكائن الذي تجاوز ظروف ولادته , وتجاوز مبررات أصحابه , وتقولبت أمامه قوانين الحياة ومدت به الأرض مداً نحو آفاق الانسجام مع ما يناسب تكويرها .
والعقول ما فتئت حتى قامت بتحويرها , ولكنها في النهاية كلما قراناها كانت قراءتها لنا أدق وأبلغ.
قد يكون الباعث على إطلاق الرسالة هدف مرئي , وقد يكون سبب مخفي , وفي كلا الحالتين وجودها فرض الفرض.
وقد كرس لها التاريخ وسائل عدة ..منها ما حملها الطير ومنها ما حملها الإنسان ومنها ما ضاع بين الرسول والمرسل إليه , ومنها ما تلاشى عن الانظار حتى ترجمتها الأفعال أفعالا , وأوصدتها الأبواب أقفالا .
ومنها ما كان لها اليد العليا على عقول لم تفهم في حينه ما كان واضحا وضوح الشمس.
للرسالة سبل تتفاوت من كائن لآخر , وأجملها تلك التي يحملها بريد الصباح والمساء كبريد الندى على بتلات الزهر وانعكاس خضرة المروج عند الضحى , وفي إطلالة القمر عند السحر إلى كائنات ذات قواسم مشتركة وفي عبورها من جسور الوعي المشترك تتم قراءتها بتواتر وعلى خزينة "الذاكرة" أن تتغذى على رحيق معانيها حتى لا تصاب في ذات يومٍ بفقدان الشهية للحياة , أو قد تدلف من بابها في ذات مرة مضاعفات فقر دم الفرحة .
أتجنب كثيرا وضع علامة الاستفهام في سؤالي الوحيد لأنه يكفيني منه تفرده وتوحده بين الألوان وأن علامة استفهام في نظري تفعل بالسؤال ما يفعله الجذر ألتربيعي في الحساب , وانه لا مجال لتحميل الأمر أكثر مما يحتمل,, وتضعيف السؤال إلى سؤالين ورطة!! لا أقوى عليها لأنها حتما ستعطيني إما إجابة ساذجة وإما جوابا لا أتخيله في اللحظة الراهنة.. كي لا أضع كل مقتنياتي من الجواهر على ميزان واحد مرهون بالطقس والمناخ
.
هل كان على الحياة أن تتقوقع في تفاصيل رتابتها دون أن تطعم مائدتها من (الرسالة ) ثريدها أو من نبأ يحمل إلينا جديدها , أو الحرمان من ظلال نخيلها ومن شقهات جريدها؟
وكيف تتفتت أمام خمول الحياة المعاني المهملة حين تتكدس في أدراج الطي والإخفاء دون أن تحملها إلينا رياح الأحبة2 .
وكان لابد من انبعاث الحياة وإطلاقها عصفورا يتحرر من القفص الصدري , لتوجهه بوصلة القلب إلى المرسل إليه.. وعلى قراصنة الكون أن تُعمى بهم الرؤية , وسيضبب بها خط الأفق لتصل الرسالة دون عناء يذكر , ودون أن تعترض طريقها دوريات خفر السواحل الخاملة .. حتى تصل الرسالة إلى ذلك الشاطئ المقابل.. وإن سألتني أنت عن وصولها ؟
سأقول لك: ربما كانت في طريقها إلي لأني أشم على بعد أميال الذاكرة عطرها.. لأنه من محاسن /عيوب الطريق في وصولها إلي إنها تمدد بساطها , قاب قوسين أو أدنى يتلألأ بريق البعد على أشداق الأرصفة ويبقى الانتظار سيد الساعات القادمة .
بعد وصولها :
و عندما وصلت!! عرفت بأن هناك علاقة وطيدة بينها وبين المصادر الطبيعية للطاقة في هذا الكون ,
حيث أنها كلما أمطرت كلماتها وكأن السماء هبطت من مستواها لتلامس رأسي الغارق في دهشته بعد كل قراءة لها ..ذات مرة أحسست أنها قرينة البحر فالبحر لا يتأثر منسوبه بالمطر ولكنه يبقى على نفس المعيار بحجمه وعمقه ..ومرات وجدتها كالأنهار العظيمة التي قد تفيض أو تبقى على تدفقها ولكن حيويتها تمتطي الدقيقة والثانية وتودع الزمن لتبقى هي سرمدية المكوث ..
لست أراهن على قدرتي باقتراف ذنب السباق معها ولكن وحده الحرف يقنعني بقوة تفوق على الأسلحة الفتاكة التي تربك الدول .
و كـ ندرة التقاء الماء بالنار تجمع تلك الرسالة بين طلاوة اللغة المنسابة وبين ثبات الصخور البازلتية الخلابة .
وان كان أمثالي من العاديين ان عبروا جسورهم المتأرجحة للتعبير عن امتنانهم لما سبق واستوعبوه من فاكهة استجمعت كل عناصر الغذاء! فالشكر وحده يأتي منا لها .. إنها ليست مجرد رسالة تحترق تحت أنظار القراءة وتلفظ أنفاسها الأخيرة بعد نفض سطورها إنما هي حارسة الأدب ..وإني لأراك أيها المرسل ناصحا يحسن التصويب وصائبا يسوي التعطيب ورافعا ما تهدل من سماء الغفلة خجلا في ذاك الوقت القريب ..فلا أدب يدوم وليس خلفه حارس , وكنتَ حتى كانتْ!.. تتسرب الرسائل إلى شواطئ حتى الآن لم .........