( من حُرم الأصول حُرم الوصول ) مقولة شائعة لدى كآفة طلبة العلم ! يتناقلونها بالتواتر وكأنها آية منزلة . وأنا لستُ أدري أينسحب هذا الكلام على كل شيء ؟!
في عصر الانفتاح العالمي والاجتياح الفكري وتعدد التيارات السياسية , ومعاهد الحرية , عصر السرعة ! عصر المعلومة , عصر العقل الإلكتروني ! نحجـِّر فيه على العقل الخلاّق بمقولات ومقولات قد لا تتفق وروح المنطق .
إن أصول الفطرة السوية , وأصولَ الخلق القويم , وأصول المنهجية العلمية , وأصول الذائقة الأدبية والجمالية المرتكزة أساسا في النفس الإنسانية ., هذه هي الأصول المعتبرة في رأيي شرعا وقدرا وعرفا .
لقد كان الرجل يأتي من البادية معلنا إسلامه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم فيأمرَ به ليتلقن ماتيسر من القرآن الكريم , ثم ينصرف لايلوي على شئ , فيشيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا : لقد فقه الرجل !
كان الشيخ الطنطاوي عليه رحمة الله يضرب لنا مثلا ليقرب لنا مدى معرفة الحلال والحرام حتى عند الحيوانات , بالقطة تتسلل خفية إلى قطعة اللحم فتتناولها بسرعة وتنطلق خائفة إلى الخارج . وتلقي أنت قطعة اللحم بين يديها , فتمشي الهوينى إليك , وتتمسح بك , وتتناولها بكل أمن ودعة لاتخش َ شيئا . فما الذي حدث ؟ نعم بفطرتها أدركت مايجوز لها أخذه , ومالا يجوز ! غريزة جبلت عليه طبائع الأشياء !
من حرم الأصول حرم الوصول .
البعض يعمم هذه المقولة على كل شئ . فيكفهر بها وجه العقل , ويرتطم على أغلفة صلدة , فتتعطل قواه وطاقاته , وتمر فرص الإصلاح الذهبية ! والعقل في مكانه كبرج بيزا ! لايثير ساكنا .
وأنا لست ُ أدري !! هذا الأعرابي الذي لم يقرأ حرفا , ولم يكتب عمره كلمة واحدة ! حين قال تلك المقولة الفلسفية الرائعة : إن البعرة تدل على البعير , وإن الأثر يدل على المسير . ! وسماء ذات أبراج , وأرض ذات فجاج ! ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير ؟! أكان ذلك الأعرابي ُّ يملك من علم الأصول شيئا ؟! أم أنها أصول الفطرة السوية والذائقة الجمالية ؟!
فلسفة ٌ مهتدية ٌ تعجز عن مجاراتها عقول ٌ أوتيت من الأصول الكثير والكثير ! أنا لا أعيب على الأصول أبدا . لكني أرفض أن يقف علم الأصول حجر عثرة أمام إبداع العقول . نرفض أن توضع أجل آية منحها الله ُ سيد الكائنات ! في قوالب جامدة بمقولات هدامة . أن تتحول الأصول إلى حروف ونصوص تردد وتكرر دون وعي , ليل نهار دون إبداع دون إنتاج وإعمال عقل .
إن العلم وإعمال العقل .. هما جوهر الدين ورسالته الإنسانية السامية .. لاتعارض ومقتضيات الوحي ولا تصادم .
إن جوهر الدين فقه وروح . لانصوص مجردة ولا حروف معلقة في الفضاء , وإني لأزدري أزدري بالفهم العقيم , وإرسال مثل هذه المقولات دون وعي . وإني لأعجب وحق لي من هدهد سليمان عليه السلام ! أكان يملك من علم الأصول شيئا حين اهتدى إلى قوم سبأ , وأنكر عليهم ماأنكرمن ضلال ماهم فيه ؟!!
نعم ! لقد أسلمت أمة على يديه ؟!
سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حين أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ! هل رجع هنا إلى مصطلح الحديث وقواعد النحو وأصول الفقه أم رجع إلى أصول الفكر السياسي وفن الدهاء ؟! قلت لصديقي : لم لاتدع ُ إلى الله عزوجل ؟!!..
أنت تمتلك لغة قوم آخرين , وكان صديقي هذا يتقن اللغة الانجليزية بطلاقة ! إني لأتقطع حسرة على أني معدم فيها ؟ قال لي بلهجة الواني المتردد الضعيف : من حُِرم الأصول حُِرم الوصول . قلت في نفسي : سامح الله من غرس هذه المقولة وأمثالها دون تربية على الاجتهاد . لقد انطلق الهدهد من منطلق الفطرة السوية فلم يحرمه الله من الوصول . وكذلك أهل الكهف ! وكذلك ذوالقرنين حين رد عن العالم شر َّ يأجوج ومأجوج , أرده بعلم الأصول أم رده بعلم الصناعة ؟" آتوني زبر الحديد ..:"الآية أم تراه قال : آتوني أصول الأحكام .. واقرءوا عليّ أصول الفقه و .. الخ ؟!!!
دعيت ُ مرة لسماع محاضرة أنفق مدراؤها الكثير من الوقت في الإعداد والحشد ..! وجاء الشيخ , وهب َّ الناس من كل حدب وصوب ! وكان الموضوع المعلن عنه جليلا حقا . تخيلوا ! كان زمن المحاضرة ساعة ! مرت نصف ساعة في مناقشة ألفاظ اصطلاحية في الحديث ! وأخذ يصك بها عقولنا : ورد هذا الحديث من طريق فلان بلفظ كذا وهناك من طريق فلان ورد بلفظ كذا , وفي السند فلان , وهو عند فلان متروك , لكنه عند فلان ثبت ! وهكذا لمدة نصف ساعة !
وأنا اتسائل لم كل هذا ؟ إن من الحاضرين ومن الحاضرات من لايعرف معنى السند ؟ جاءني بعض الحاضرين وكان من العوام , يسألني بعد ختام المحاضرة : لابد وأنّ ( سند ) هذا من أقارب الشيخ ! فهو لايفارق لسانه من أول المحاضرة . أليس كذلك ؟! قلت له : أجل ! إن سند هذا عالم كبير ! فيا إخوة أصلحوا من خطابكم .. ويامن تملكون عقولا سخروها في هداية الخلق , وانطلقوا من هنا , من الفطرة السوية والفكر السليم ولا تخشوا الخطأ فلولاه ماأدركنا الصواب .." وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم .." الآية .
بقلم / طارق السكري 25 / 8 / 1426 هـ