خاطرة
غربة المثقف ..
ربما يكون الآتي أجمل..!!
كلماتي تنوء بحمل شعوريّ يتكدس في زوايا ذاكرتي المرهقة..فأبحث عن الضجيج فلا أجد سوى الصمت ، هو وحده الكفيل بحمل أمتعة شوقي التي أضجرها التنقل في مرافئ الأحلام..هناك حيث الألم يشرع أبوابه في داخلي.. والطفل في داخلي مازال الربيع باسما على شفتيه في صقيع من أمل..نعم الطفل وحده هو الذي يقيم في داخلي مدينة فاضلة ، ويقطع تذاكر الأمان!!
قال لي محاوري .. إنكم – معاشر المثقفين- تعيشون اغترابا عن كل شيء يحيط بكم..فقلت له: نعم إنه ديدن الغرباء الذين ينثرون أوقاتهم على الورق ، ويتحدون مع الغياب ، ويهبون قلوبهم وعودا بتهدئة الخاطر.. وتبقى المدينة الفاضلة سرابا يتابعونه ، فيقطعون المسافات ، ويقفون على أعتاب الشوق يتكئون على أحزانهم ، وصدق عظيم الشعراء حين قال:
وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس غريب حيثما كانا
نعم إنه الاغتراب الذي يجعل طرقنا محفوفة بالأسئلة التي نعجز عن الإجابة عنها ، فالدنيا تحفظ في أوراقنا وديعة حياة نحفظها بأمانة ، وبقلب آمن لغد يكون أجمل ، ولكن يبقى وطننا بعيدا ، ويصبح السفر إليه وفيه موعدا للأحلام والأمنيات التي لا تتحقق...
وحين نريد أن نعيش الواقع بفصوله وحروفه وحكاياته ، نجد أن لأحلامنا بيوتا لا يسكنها إلا نحن ، فنحن نلقي( تعاويذ ولهٍ على الورق ، ونحيط أنفسنا بتمائم تبعد أشباح الواقع..) وتبقى الكلمة طائرتنا التي تقلنا عبر الأزمنة لنخترقها ، ونعيشها بنفوس تعانق الفراغ، ( فنغامر في شرف مروم ولا نقنع بما دون النجوم)..
وكنت أردد أمامه دائما عبارة :
سنكتب ونكتب ونكتب ..فربما يكون الآتي أجمل!!
لقد كنا ذات يوم نؤلف كلا واحدا..مات نصفه في واقعنا، فلم يعد لبوصلتنا جهات، ولاشيء في حاضرنا نعتز به، فهل ننبش القبور؟ أم ننتظر المستقبل الذي يتفلت من بين أصابعنا؟وما هي إلا الكتابة وحدها التي تذكرنا بنصفنا المجهول..!!
سنكتب ونكتب ونكتب ..فربما يكون الآتي أجمل!!
بحسبنا أن الجيل القادم سيزور أطلالنا ، فيتذكر أعماق الآهات التي كانت تربطنا بالحياة..سنكتب قبل أن ينهال على ملامحنا الغياب ، وسنفتح قلب الحرف قبل أن تطويه العتمة..ولن يبقى منا في النهاية سوى أرواح تلملمها عيون القادمين بعدنا..
سنكتب ونكتب ونكتب ..فربما يكون الآتي أجمل!!
عاد إلى السؤال مرة أخرى وأظنه لم يقتنع بكلامي: لماذا تهربون – معاشر المثقفين- من الواقع ؛ فأجبته : نحن لا نهرب من الواقع ، بل ننغمس في الأشياء التي تسكننا وتعبر بنا عبر نافذة الحلم، حتى لا نتمدد كظل مشروخ نعجز بعده عن لملمة أنفسنا..نسير مع الأحلام بأجنحة الواقع لعلنا نبتكر غدا يتسلل إلى ملامحنا، ولن نكون صنّاع تاريخ إلا إذا أصبح الظمأ عندنا أقوى من الارتواء، وإذا لم نفعل ذلك فإن الأيام ستمر في أحيائنا قلقة تنذرنا بالمؤقت فنحيا الواقع مرغمين ، ونحتار في أسباب ثباتنا عليه..
قهقه بضحكة طويلة ، وقال لي:
إنكم تضيعون أوقاتكم في كتابة مالا يقرأ ؛ فأصابني بالذهول ..فاستجمعت قواي ، وقلت له: إننا لا نضيع الوقت ، بل نسرق الوقت من الوقت، لنسيّج واقعنا بالحروف ، ونفتح صنابير الشوق على عالم نصنعه بالكلمة، ونزرع حقوله بالحروف( التي تنهض لعناق تفاصيل الروح في سعي لفضاء لا يحد و بين الوقت والوقت ننتظر..وبين الشوق والشوق ننتظر..وبين السؤال والسؤال ننتظر) وإذا كان الناس لا يقرؤون فلن نلوذ بعمق الصمت ، وسنبحث في الحياة عن موطئ قلم ، وسنقف دائما بين ( مستقر المعاني واحتشاد اللحظات الصادقة) ، وسنواصل السفر إلى مواطن الجمال الذي يغطيه السكون، وسنبقى نبحث عن سفر دائم داخل البوح إلى أن يتغير الزمن، وسنغزل من نسيج الخيال مشاعرا على الورق ، وحتى يأتي ذلك الحين...سنكتب ونكتب ونكتب ، فربما يكون الآتي أجمل!!!عض محدثي على شفتيه حنقا ، واستأذن بالانصراف..
ودعته وعدت إلى أوراقي..