طرطور على رأس الملك
بقلم : نجلاء محمود محرم
أبلغهم الملك العظيم باعتزامه الرحيل
صدر الصوت مخنوقا مكتوما
_ كيف يا عظيم؟
= هكذا.. لم أعد أطيق البقاء..
نكأ حديث الملك الجراح.. صار ما يحدث فوق الاحتمال.. ولكن كيف الرحيل وقد سُلِبَتْ الأجساد القدرة على الحركة.. وإن كانت قد احتفظت بالقدرة على البقاء؟
وطال البقاء..
ولم يأتِ بعث يرد الروح إلى الأجساد..
وظلت الأرواح حبيسة جوار أجسادها..
_ مافائدة نبوغنا فى الكيمياء والتحنيط بدون بعث؟
= أتنكرون على أنفسكم نبوغها وإيمانها؟! هل قهركم سوء الحال إلى هذه الدرجة؟
_ أنت لاتدرك مدى القهر الذى نعانيه..
= كيف لا أدرك وأنا أَوَّلُكم رحيلاً؟
_ تلك نعمة لا نملكها يا صاحب الهرم.. فمومياواتنا تحت أيديهم.. والأرواح كما تعلم لا تبرح المكان الذى فيه أجسادها..
_ أعلم هذا.. لكن لابد من الرحيل..
"منذ مئات السنين حزن الملك العظيم.. وتألمت روحه لما تسلل اللصوص إلى هرمه
فى ظلام المكان الرهيب تحركوا..
وقع خطواتهم يفزعهم..
مدوا الأيدى..
حملوا الجسم الملفوف..
هبطوا به الدرج المائل..
ربطوه بالحبال..
دلوه من الفتحة العالية التى بقروا بها الجدار..
تلقف الباقون الجسم الملفوف..
وضعوه فى تابوت خشبى حقير..
فى ظلام الليل حملوه.. الروح تتبعهم أينما ذهبوا..
حلقت فوق القارب الذى استقر فيه التابوت..
ودخلت البيت المهدم معه..
مزققوا لفائف الكتان..
نزعوا القلائد والأساور والأحزمة وأغطية الأصابع الذهبية..
فزعهم جعلهم يمزقون الجسد ليسارعوا بنزع كنوزه..
ألقوه فى حفرة عميقة..
ألقوا فوقه لفائفه الكتانية..
ردموا عليه..
الجسد يتآكل.. يتضاءل..
الروح تحوم.. وتحوم..
الجسد يتلاشى.. يتلاشى..
الروح تبحث عنه.. ولاتجده..
تنطلق فى الكون حزينة هائمة.."
_ نحن يا صاحب الهرم مربوطون إلى أجسادنا..
انتبه صاحب الهرم من ذكرياته..
= صدقونى تلك الأجساد لاشئ!
همهمت الأرواح
= نعم هى لاشئ.. أنظروا إلى قدرتى على الترحال
_ لكنك ترحل وتعود
= لاعودة هذه المرة..
_ سنفتقدك
= إذا أوحشتكم تعالوا لزيارتى
_ لن نستطيع ما دامت أجسادنا هنا..
= بل تستطيعون.. فقط حاولوا.. سأتمنى أن تحاولوا..
_ ونحن سنتمنى مثلك.. ومن غاب عنا سيتمنى أيضا..
"نعم.. نعم.. الغائبون.. المرتحلون اللاهثون خلف مومياواتهم.. نحن الملوك العظام.. تُحْمَلُ أجسادنا وأشياؤنا للناس ليتفرجوا! نحن الذين انحنت الدنيا أمامنا.. يحملوننا كما يحمل السحرة الأفاعى والقرود ليتفرج الناس!"
= خَلَّدْنا أنفسنا ياصاحب الهرم ليطاف بنا كالبضاعة الراكدة!
_ لم أعد أطيق البقاء.. كيف يرضى الأحفاد؟
= هم يعدون للاحتفال بك!
_ بى؟!
"نعم سيضعون فوق هرمى طرطوراً! نعم.. طرطورا! قالوا ان قمته كانت مغطاة بالذهب.. نعم كانت مغطاة بالذهب.. ليضوى شعاع الشمس عليها.. لتلمع تحت ضوء القمر.. لتخشع القلوب وتنبهر العقول.. فتنحنى الدنيا أمامى.. ويتضاءل الأعداء حقارة! نعم.. كانت القمة ذهبية.. تاج على هامة عظيمة.. أما الآن.. فهذا الطرطور الذهبى من لوازم الحواة!"
_ بمن إذن سيحتفلون ياصاحب الهرم؟
نبهه السؤال
= هرمى ليس فى حاجة إلى طرطورهم ليصير عظيما.. كل حجر فيه أثمن من ألف طرطور مما يصنعون!
_"طرطور! ما"الطرطور"؟
= هو غطاء للرأس قمته مدببة.. يلبسه المهرجون والأراجوزات!
_ وما"الأراجوزات"؟
= لا تشغلوا بالكم.. هى أشياء حقيرة مبتذلة!
_ أنت موضع اهتمام الأحفاد على كل حال..
= اهتمام خال من التوقير
_ فات عصر التوقير يا عظيم..
"نعم.. فات.. أحجار هرمى أصبح منقوش عليها قلوب وأسهم وأسماء وتواريخ.. وفى داخله تلقى النكات وتقام طقوس الهوس.. الرطوبة تأكل جدرانه ولا يرحمونه من أنفاس الفضوليين.."
= نعم لا وقار ولا احترام..
_ هرمك على الأقل ثابت فى مكانه.. لا يُطاف به شرقا وغربا..
= لاتنسوا أيضا أنه غير قابل للتقليد والتزييف..
_ ما زالوا يتزاحمون لمشاهدة مومياء حفيدك العظيم.. رغم أنها مزيفة!
= لا تذكرونى..
"فى مدينة الثلج.. فى القاعة الفسيحة.. فى صندوق زجاجى.. رقدت مومياء حفيدى العظيم.. الروح تحلق فى كل مكان بالقاعة.. الروح قلقة من شئ مبهم مجهول.. الأحياء يرنون بإعجاب للمومياء.. الزوار ينقطعون.. تغلق الأبواب.. يفتح باب جانبى فى حذر.. أجهزة الإنذار أوقفت.. يدخلون بتلصص.. يفتحون الصندوق الزجاجى.. يرفعون مومياء حفيدى.. يضعون مومياء أخرى لاتحمل عطر الزمن.. مومياء حقيرة محنطة كأسوأِ ما يكون التحنيط! يحملون مومياء الحفيد العظيم فى الصندوق الذى أحضروه معهم.. يخرجون بها فى حذر.. تحلق الروح فوق موميائها.. ويظل الفضوليون يرمقون بإعجاب المومياء المزيفة!"
= لاتغضب ياعظيم.. هى راقدة فى مكان ما تتمتع بالسكينة..
_ منذ متى وأنتم تتصفون بهذا الخنوع؟
= الرقدة هى الرقدة أيها الملك..
_ صه! أونباع فى المزادات ونشترى كالكباش وأنتم لاتبالون؟
= ما الذى نستطيعه؟
_ الرحيل..
= هى الأرض..
_ أخرجونا منها وأسكنونا صناديق زجاجية وطافوا بنا العالم يلملمون القروش!
= هو مجدنا..
_ زلزلته الأرض ولفحته النار ولم يعرفوا له قدرا!
= وجودك بيننا ياعظيم يجمع شملنا..
_ ارحلوا معى إذن
= لكنه الوطن!
_ لم أعد أفهم لتلك الكلمة معنى
= أنت تعرف أيها الملك أن معابدنا ومقابرنا بدون أرواحنا ستفقد روعتها وسحرها..
_ ولذلك لابد من الرحيل!
1999 تأثرا باحتفالات مصر بالألفية الثالثة