يعتبر المكان أحد مكونات البنية الحكائية للرواية,ولا بد منه لفهم الإطار العام للأحداث,ففيه تتم جميع مشاهد وفقرات وحوارات الرواية,سواء أكان ذلك حقيقة أم خيالاً,واقعاً أم مبتدعاً...وبعبارة أخرى يمكننا القول"العمل الأدبي حين يفتقد المكانية فهو يفتقد خصوصيته,وبالتالي أصالته"
ولما ارتبط المكان بالأديب ارتباطاً وثيقاً؛راح يطبعه بطابعه ويصقله بقالبه,فأثر في مشاعره وطغى على أحاسيسه,بكونه بيت للذكريات"الحقيقية أوالمُتَخيلة",وإطار لأحداث الرواية التي يكتبها,فالبيت لم يعد مجرد جدران فحسب,والحقول ليست أشجاراً فقط,بل أخذت منحى رمزياً يرتقي بها إلى درجات أسمى تمثل الإحساس بكل جوانبه,"أي أن الصورة الفنية والمكان والذكريلت المستعادة ليست معطيات ذات أبعاد هندسية,بل مكيفة بخيال وأحلام يقظة المتلقي ومن هنا نرى أن المكان ليس خاصاً بالسارد فقط,بل يتعدى ذلك إلى المتلقي الذي يرى من وصف مكان الرواية وصفاً لمكانه الخاص...ويكمن جمال التحدث عن المكان في الرواية بتبادل الأدوار بين السارد والقارئ,فبذلك يصبح القارئ سارداً,ويتقمص شخصه,ويفهم أبعاد الأحداث كلها من خلال هذا التقمص..
فالمكان في أي رواية كانت هو جزء لا يتجزأ من الرواية,وهو سبيل السارد لإيصال المتلقي إلى فضاء الأحداث,وفهم مجرياتها..
المعطيات البنائية:وهي مجموع المعطيات التي تجتمع فيما بينها لتعطي صورة مجملة عن المكان الذي جرت به أحداث الرواية,وتقسم المعطيات البنائية إلى ثلاثة أقسام:
1_المعطى العمراني:يُعرّف بأنه المكان الذي قام الإنسان ببنائه ,أو قام بتعديله؛وإضفاء اللمسة الإنسانية عليه..وقد يتميز السارد بنظرة عمودية خاصة لجميع الأمكنة أو بعضها والتي جرت فيها أحداث الرواية,فيصفها وصفاً دقيقاً بكل طياتها وتفاصيلها ومن كافة جوانبها,ويقلبها تقليباً,وكأني به يريد أن يضع القارئ في المكان ذاته ويجعله يحس بجماله أو قبحه,فيبدأ من الدقائق الصغيرة فالأكبر حتى يصل بالقارئ إلى نظرة عامة كلية تعينه على فهم الأبعاد الخارجية بمجملها..
وحين يعود السارد لذكر مكان سبق الحديث عنه فإنه يذكره بنظرة أفقية عامة,موقناً بذلك أن القارئ صار لديه فكرة واضحة عن هذا المكان,وأنه ارتسمت في ذهنه صورة عامة للمكان المذكور..
2_المعطى البشري:"إن هناك تأثير متبادل بين الشخصية والمكان الذي تقيم فيه,وإن الفضاء الروائي يمكنه أن يكشف لنا عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها الشخصية,ولا شيء في البيت يمكنه أن يكون ذا دلالة من دون ربطه بالإنسان الذي يعيش فيه"
فالعلاقة وطيدة بين الإنسان والمكان,وكل منهما يؤثر في الآخر تأثيراً قد لا يكون متخفياً لكل متمعن ومدرك,فالإنسان الجبلي قد أخذ من الجبل صلابة الرأي وقوة التحمل.. والساحلي أخذ من البحر السماحة والسعة...وكذلك الصحراوي والقروي والمدني ..كل أخذ من بيئته صفاتها..
3_المعطى الطبيعي"الجغرافي":وهو وصف دقيق للأمكنة التي وقعت فيها أحداث الرواية,فيتم بذلك نقل حالة القارئ من مجرد قراءة إلى حالة زيارة لتلك الأماكن من خلال تخيلها وكأنه موجود بها أثناء القراءة.ولا شك أن المعطى العمراني وحضوره في الرواية يدل على حالة السارد ووجهة نظره من تلك الأماكن(حباً أو كرهاً) فيربط بذلك بين الحالة العاطفية وبين المكان..ومن الممكن أن تكون هذه الحالة متخبطة وضائعة حسب تقلب الأحداث..
ثانياً:درجة الإستقرار: وبها يتم وصف حال المكان من حيث التغير و السكون, ودراسة العوامل المؤثرة في تغير هذا المكان وتبدّل ملامحه فالمكان من حيث درجة الاستقرار يقسم إلى نوعين:النوع الأول هو نوع ساكن لا يتغير من بداية الرواية إلى آخرها وكثيراً ما يكون لذلك دلالات في الرواية ونوع متحرك وهو التغير في أشكال المكان الذي يذكره السارد إما بفعل الكوارث الطبيعية أو الحروب أوبفعل تحسين الإنسان نفسه لهذا المكان...فيكون بذلك تغيراً سلبياً أو إيجابياً..وبرأيي أن درجة استقرار المكان تتلازم مع درجة استقرار حياة السارد وتقلباتها..فيرسمها بريشة سيرورة الأحداث فتخدم بذلك أفكاره التي أراد توصيلها إلى القارئ..
ثالثاً:النوعية:"يتخذ الفضاء الروائي وضعية ممتازة داخل السرد بفضل الدلالة المزدوجة التي يحظى بها,فهو يُعرض في النص عن طريق تصويره وتعيينه ثم يُعلق عليه وتعطاه دلالة ومعنى عبر إدراجه في سياق محدد"ومن هنا نشأت نوعية المكان,أي النسبة لصاحبه فهو إما مكان محبب للشخصية أو مكان تكرهه وتهرب منه,وهذا يظهر من خلال قراءة الرواية والاشتغال على المعطى الحكائي"المكان",ويقسم امكان من حيث النوعية إلى نوعين:المكان العدواني والمكان الأليف.فأما العدواني:فهو المكان الذي لا يحبه السارد وينفر منه ويبتعد عنه لأسباب عديدة,قد تكون بشرية أو طبيعية أو اقتصادية..ويطمح إلى مكان آخر يجد فيه متسعاً لتحقيق أحلامه وتطبيق أفكاره التي يؤمن بها..
وأما المكان الأليف: فهو المكان الإيجابي الذي يحبه السارد وينجذب إليه..وبنفس الأسباب التي تنفّره من المكان الآخر(بشرية,طبيعية,اقتصادي ),فإن غادر هذا المكان يظل عائشاً على ذكرياته الجميلة بكل ما تبعثه من نشوة وسرور في قلب السارد..وقد يجد الدارس صعوبة في تحديد المكان الأليف والمكان العدواني ,بسبب تقلب الأحداث والضبابية التي تنتج وراء ذلك..
رابعاً: وظائف المكان:إن المكان كغيره من البنى الحكائية لا يمكن أن يُهمّش في الرواية ولا يمكن إغفال دوره كعمود فقري للرواية والتي تجري أحداثها في نطاقه وتتلون شخصياتها بألوانه,بل وهنالك وظائفٌ يؤديها ومن دونها يصبح فهمنا للأحداث مستحيلاً..وهذه الوظائف تقسم إلى قسمين:القسم الأول هو الوظائف الخارجية وهي وظائف ذات تأثير ثانوي تفيد في اطلاع القارئ على الحالة العامة للمكان,والصفات التي تجمع ما بين أفراده وتقسم بدورها إلى قسمين أيضاً:أ_وظائف نقدية: وتفيد في نقد الأحكام والقوانين التي تحكم المكان سلباً أو إيجاباً,ويطلق من خلال ذلك حكماً نقدياً يتناسب مع المقام.ب_وظائف معرفية:وهي الوظائف التي تجعل القارئ يُكوّن صورة واضحة عن صفات المكان سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية أم اقتصادية....وهذه الوظائف هي مكملات ثانوية لبناء الرواية.
أما القسم الثاني من وظائف المكان فهو الوظائف الداخلية:وتُختصر هذه الوظائف في انها تُعبّر عن شعور ذاتي أو شعور جماعي لأبطال الرواية.فأما التعبير عن شعور ذاتي أي عن ذات السارد وما يُحس به اتجاه هذا المكان.وأما التعبير عن شعور جماعي:ففيه يتخذ السارد من المكان مسرحاً للتعبير عما يُحسّ به قاطنو هذا المكان.
أخيراً بقي لي أن أشير إلى مسألة التحفيز المكاني في الرواية العربية:هو الرجوع بالذاكرة إلى مواقف قديمة وأماكن سكنت داخل الشخصية,وذلك عند المرور بموقف معين أو مكان ما مماثلٌ لمكان آخر في الماضي.
وختاماً:وبعد تناول المكان كبنية حكائية لا غنى عنها في النص,نجد الكثير من الروايات قد بنيت كلها على أساس الصراع الدائر بين الأمكنة و أفرادها..وهذا يؤكد عدم امكانية إغفال المكان ودوره الرائد في الرواية...