هل الرأي الآخر مشروع ؟
نبيل عودة
نبيل يتصل بزوجته : انا على الطريق السريع .. والسائقين جنوا هنا .. وورائي قافلة سيارات شرطة تطلق زماميرها لأوسع لهم الطريق ، ولكني لا أجد مكانا فارغا على الرصيف لأعطيهم حق المرور .
زوجته : احذر اذن يا نبيل ، قبل قليل قالوا في الأخبار ان سائقا مجنونا يسير على الشارع السريع عكس خط السير.
نبيل : مجنون واحد .. ليحمني الله .. مئات المجانين هنا يسيرون عكس خط السير!!
مئات المجانين ؟ .. أم مجنون واحد ؟! اذن هل رأي نبيل هذا صحيح ؟ وكيف يثبت مشروعية حالته على الشارع ؟
لا يوجد منهج اجتماعي أو فكري يحدد شرعية الآراء وبالتالي ضرورة التصادم بينها بالمفهوم الايجابي للتصادم وليس بما هو سائد في ثقافتنا اليوم ، العداء والرفض التلقائي .. وتحويل النقاش من الموضوع الى الشخص .
المفترض بالمحاور ، الجاد .. الانتباه للرأي الآخر باحترام نسبي على الأقل ، وليس الرد التلقائي بدون تفكير تمسكا ب "العبقرية " الذاتية التي تغذي أوهام تملك الحقائق المطلقة .. وبالتالي هي ظاهرة للإنسداد العقلي والتحجر الفكري وعدم القدرة على الاندماج بحركة الثقافة واندفاعها الذي لا ينتظر المقعدين المقتنعين انهم وصلوا قمة المعرفة ، بجهل عظيم لواقعهم ،ومهما اتسعت واتسع ادراكنا لحقائقها الجديدة، نجد ان أوساطا واسعة جدا ما تزال تعيش على أوهام امتلاكها للحقيقة.
لا يوجد في الفكر والعلوم بمختلف مجالاتها ، مقدسات لا يمكن نقدها او اخضاعها للبحث.
الفرق بين الحرية في التفكير والحرية بنفي التفكير ، هو الفرق بين الوعي والجهل . الواعي يعرف المساحة التي يستطيع ان يتعامل معها باحترام لوعي الآخرين ووجهات نظرهم وعقائدهم ، بينما الحرية في رفض التفكير هي الفوضى العارمة وغياب الرأي الواضح أو الطرح العقلاني.. أو الاحترام للإختلاف الطبيعي والضروري للمعرفة والتطور .
قرأت طروحات في الفترة الأخيرة حول حرية الراي والحوار ، أثرتني جدا .. رغم ان بعضها ترديد أجوف لمقولات آلية.. . وتتعلق أيضا بحق الرأي وحق الاختلاف ومساحة حرية الرأي.. وحالة الفكر العربي بشكل خاص . ويبدو لي ان الكثير من المثقفين العرب هم شبه أميين لا يقرأون الا أنفسهم .. لا يطورون معارفهم ، لا يوسعون آفاقهم . في الأشهر الأخيرة ، وبعد اطلاعي على حوارات واسعة في الإنترنت ، إنكشف لي واقعا مستهجنا ومؤلما على المستوى العربي العام .. القراءة لم تعد صفة للمثقفين . . الا لقلة منهم . معارفهم توقفت حول زمن معرف لا يتحركون الا داخله.هذا لا يحتاج الى عباقرة لكشفة ، جهلهم يصرخ من جملتهم الأولى ، وبغض النظر ان كانت جملة شعرية أو قصصية أو موقف أو فكر ..
كما قلت ، كل شيء في عالمنا نسبي.. وما يحكم الحرية والأخلاق في حقبة تاريخية معينة ، ليس نفسه في حقبة تاريخية أخرى.
ما يحكم المواقف والتعبير عنها في ظروف سياسية ، قومية ، دينية أو اجتماعية ، ليس نفسه اذا اختلفت الظروف.
المثقف هو انسان مسؤول أولا.. وليس مجرد صاحب رأي أو مجتر لآراء القيمين عليه .. قد يكون رأيه صحيحا ولكن اسلوب طرحه خاطئ أو توقيته خاطئ. .. او بعيد عن مشاكل مجتمعه ، خاصة في حالة الاجترار والتقليد بلا وعي وبلا معرفة ...
الذي لا يعرف متى يجاهر برأيه في الوقت الصحيح ، لديه اشكالية في قدرته على فهم الحدث باطاره التاريخي.. .والانتباه لتوقيت الطرح ولا أقول محدوديته ، لأن القانون لا يقيد الفكر ، الفكر هو الذي يصنع حدوده ومساحة طرحه واسلوبه وشرعيته. . ونحن ندرس التاريخ ليس لنعرف متى ولد نابليون ومتى مات .. او سيرة غيره من الزعماء وتاريخ صعود وسقوط الدول .. انما لنعرف تجارب هذه الدول ، الأفكار التي حركتها ، واحتمالات الصواب والخطأ .. لنثري معارفنا ونرقى بها. ولنجعل من التاريخ تجربة فكرية نتعامل بها بناء على تطور معرفتنا من سياق التاريخ ، لنطبقها على حالات تتماثل في حراجتها وأهميتها ومصيريتها مع ما نواجهه في واقعنا .
الموضوع .. حرية الرأي لا يمكن تلخيصه بجملة أو قانون .. بل بحركة الحياة والرقي الفكري والتعليمي والثقافي والعلمي والبحثي للمجتمع ولأفراد المجتمع ولأصحاب الرأي بالتحديد الذين يشكلون العنصر الفعال في تكوين الرأي العام الاجتماعي. وبالطبع لا يمكن تجاهل مساحة الحرية الاجتماعية والسياسية داخل دولنا ..
اذن هي مسؤولية ليست سهلة .. وألد اعداء هذه المسؤولية هو الوهم ان ما أطرحه " انا " هو الصواب نفسه .
الانفتاح على الرأي الأخر هو الحل وهو النهج الذي يضمن الاحترام المتبادل وعدم التشهير بين أصحاب الرأي. وأظن ان التلخيص الأنسب لكل هذا النقاش يمكن تحجيمة بمقولة واحدة : عاش العقل!!