( صفحةٌ منْ طُفُولتي ) ( 2 )
بقلم / ربيع السّملالي
(( لاَزَالتْ ذَاكِرَتِي تحتَفِظُ بالكَثير الكثير منَ المواقف التي كنتُ أمرّ بهَا وأنا أسيرُ في دروبِ الحياة ، وأمضي في أزقّة الأيّام ..، فأتبسّم من بعضها وأكاد أبكي من البعض الآخر ..))
عندما كنتُ في السّابعة من عمري ، وبالكاد في شهر يوليو حيثُ الحرُّ والقيظُ ، والشّمسُ ناشرة سُلطانها على الكون .. كنتُ ألعبُ مع أحد أبناء خالتي الذي جاء عندنا بمعية والدته من البادية ، وهو في سنّي طبعا ، كنّا نلعب ونلهو ونمرح غير مُلتَفِتين لقساوة الشّمس ، التي تلهب أجسادنا الضّئيلة ، ولا للعرق المتصببّ بغزارة ، فبينما نحن في أمن وفي دعةٍ في حيّنا إذْ جاءت إحدى عمّاتي تبكي وتُوَلْوِلُ راسمةً بأظافرها خطوطًا عريضة متنافرة على وجنتيها ، والدّم متجمّد هناك .. سألتني بنبرة قاسية أين أمّك ؟ هل هي موجودة ؟ لقد مات أخي ، ماتَ أبوك ، مات رجلُ العائلة ..وقفتُ مشدوهاً وقلبي يرتعدُ لا أعرف ماذا أقول ولا ماذا تعني كلمة ( ماتَ ) ، ولم أستطع من هول المشهد أن أقول لها : ( ذهبتْ للسّوق ).. لأنّ كلمة الموت تبقى عند الأطفال لغزا محيّرا كالحياة نفسِها ، فكيف إذا كان هذا الموتُ مصحوبا بالدّم والعويل والصّراخ ؟ .. أنقذتني أختي الكبرى من ذهولي إذ خرجتْ مسرعةً من دارنا وهي غير مصدقة ما سمعتْ ..لا يمكن أن يموتَ أبونا ؟ كان البارحة معنا ؟ لابدّ أنّ الخبرَ غيرُ صحيح ؟ هل أنتِ متأكدة يا عمّتي ؟ ... فأجابتها عمّتي والدّموع تنهمرُ مِدْرَارا ، وشعرها العابث قد غطّى نصف وجهها : مات بحادثة سير مروعة بسيارته ، قُطعت يدُه ، ومات كل من كان معه من أفراد العائلة إلا أخاكِ ( غريب ) وأختك ( وسيلة ) ...فانتفضت أختي وفقدت صوابها ، وألقت بنفسها على الأرض تتمرّغ في أوحالها ، وتندب وجهها وتشقّ ثيابها ، وصراخُها يملأُ الحيّ .. خرجت النّساء بملابسهنّ المنزلية ، خرج الرّجال ، خرج الأطفال ، اجتمع الحيّ كلّه على وقع هذه المصيبة التي أصابت ( دار السّملالي ) ..وبقيتُ أنا متجمّدا في مكاني كالصّنم ، ضائعا في غربة طفولتي ، تائها في بيداء جهلي البسيط ، وسيل من التّساؤلات يرتطم بصخور عقلي الصّغير .. لماذا مات ؟ وكيف مات ؟ وما معنى مات ؟ وكيف قطعت يده ؟ وهل من الواجب علينا أن نموتَ وقد بُترت أحد أعضائنا ؟ ..لا أدري ..
جاءت والدتي وخالتي وكانت الفاجعة ، ولن أستطيع مهما حاولت أن أصوّر موقف أمّي وهي تبكي وتندب وتصرخ ، في هذه العجالة ، إلاّ أنّني أستطيع أن أقول : لقد كان بكاء أمّي أمامي بتلك الطّريقة المفزعة ، أكبر من موت أبي نفسه ، فانخرطت في البُكاء ، واسترسلتُ فيه طويلا ...والله المستعان
مرّت على هذه الحادثة المؤلمة عشرون سنة ونيّف ، والله لازلت أذكرها وكأنّها البارحة !
25 / 12 / 2011