قراءة نقدية مجملة في الأسلوب الشعري للشاعر لإكرامي قورة.
منذ اللحظة الأولى التي قرأت فيها للشاعر الجميل إكرامي قورة أدركت أنني أقرأ لشاعر لا يمتلك أدوات الإبداع فحسب ، بل ويدرك قيمة الحرف ودوره ، ويجيد انتقاء أصناف درره وجواهره ليصنع في كل مرة عقداً فريداً من المعاني المدهشات والمباني المبهرات.
واليوم أجد أنه من غير المنصف أن لا يتم استعراض ما يقدمه الشاعر إكرامي للأدب العربي عموماً وللشعر خصوصاً من ألق وإبداع يعتمد على عنصر الإدهاش حيناً والإقناع حيناً آخر. وأنا هنا أستأذن في هذه القراءة السريعة والانطباعية التي أحاول بها أن أقف على حدود معالم الإبداع في شعره دون الغوص في بحاره واستخراج درره المكنونة في أعماق المشاعر المسكوبة سلسبيلاً عذباً يحسن ورده ويطرب جرسه ، فإن الغوص قد يغرق إن لم يمتلك الناقد أكسجين الوقت الكافي لما سيطول.
إن الشاعر محل القراءة يتميز كما أسلفت بهذا الحس الكبير في استدراك القيم الكامنة في الحروف والظلال الممتدة من الكلمات ليؤطرها في صورة بهية تتعانق فيها خطوط الإبداع مع ظلال الإمتاع بشكل يشد إليه الفكر ويخلب العين. وإن كان من وصف دقيق لما يقدمه الشاعر إكرامي قورة فهو أنه شاعر الإدهاش يعتمده كعنصر أساسي في جل شعره ، وأشد ما يتميز به هو شعر الشذرات أو الومضات التي تقدم صورة مدهشة في تكثيف شعري كبير من خلال قطعة شعرية لا تتجاوز أبياتها عدد أصابع اليد. حين يكتب إكرامي بهذا الأسلوب يصبح شاعراً لا يجارى بما يتميز به أسلوبه من مبنى مكثف بألق ودقة ومعنى مدهش في رأي ورؤية. ولذا فإنني رأيت أن أجمل ما قرأت له كان في تلك الشذرات الشعرية البراقة والتي أسوق هنا منها:
ألقيتُ عمْـري كلَّـهُ بيديـكِ ووقفتُ أشعارَ الغرامِ عليـكِ فإذا قسا دهري ذكرتُ حبييتي عمراً تقلّبَ في الحنانِ لديـكِ وإذا تعبتُ فسوفَ أطلبُ يا أنا حقَّ اللجوءِ العاطفـيِّ إليـكِ
أبيات ثلاثة كانت كافية لتقول ما تعجز عنه الطوال يجسد فيها هذا الشاعر المبدع علاقته بالحبيبة ليراها الوطن الذي يأتمنه على عمره ويوقف عليه حبه وشوقه ، ويتجاوز هذا الأمر إلى أن يراها كذلك الملجأ متى انقلب حاله ولفظته حتى نفسه ليراها هي ذات نفسه التي تؤويه من رهق نفسه وأنها الملجأ الذي يأوي إليه طالباً حق اللجوء العاطفي. صورة مدهشة حقاً في شذرات من ذهب.
ثم لننظر هنا مثلا:
العـقـدةَ زادت تعقـيـداً والأمرُ استفحل واستعصى من يحمي بيتَ المـال إذا ما كان المحتسبُ اللصا ؟!
نعم ، لا يحتاج المعنى لقول أكثر. من يحمي بيت المال إن كان المحتسب اللصا؟؟ هو الإيجاز إذاً للإطناب ، واقتصاد للكلمات لينفق العقل التفكير في الغايات.
ولننظر هنا أيضاً لندرك أبعاد الدهشة التي يعتمدها الشاعر في طرح شذرات شعره الوامضة:
يا أجملَ زهرات الدنيا
يا وجهَ الوردِ.. وقلبَ الفلِّ..
وعطرَ النرجسِ والريحانْ
يا سحرَ بنفسجةٍ.. رقصتْ
من أجل تفردها أرضُ البستانْ
آمنتُ الآنْ..
آمنت بأنّ هناك بناءً ضوئياً
يجري... لنكونْ...
فأنا من بعد رحيلك يا عمري..
أتنفس ثانيََ أكسيد الكربونْ!!!
ثم لو تأملنا أسلوب البناء عند الشاعر لإكرامي قورة نجده يعتمد الجرس الجميل الواضح ، ويتحاشى الحشو ببلاغة مشهودة وإن اعتمد المفردات البسيطة ، وأسلوبه في الطرح يقترب جداً من المباشرة والوضوح دون أن يكون ذلك على حساب الصورة الشعرية أو المحسنات البلاغية التي نجدها في الأبيات بشكل وإن قل إلا أنه يخدم النص ويعين على إضافة البعد الثالث للصورة المرادة.
وأما الفكرة التي يعتمدها الشاعر للبناء فهي تعتمد الومضة التي تبرق لتجعل سحاب الفكر يهمي بالتأمل العميق والمعاني الكثيرة في استقصاء المراد ، ويعتمد عنصر الإدهاش كما أسلفنا كانعتاق من قيود الإطناب بما يمكن للإيجاز أن يؤدي دوره ويقوم مقامه وهذا لعمري مما يحسب للشاعر.
ورب من يظن أن في أسلوب المباشرة والوضوح ما يحسب على الشاعر ، ولكني أراه مما يحسب له ذلك أنه يعكس ما في نفسه من حالة النقاء والسلام مع النفس ، ويبرزه كشاعر يؤمن بما ندعو إليه من منهج "الفكر قبل الشعر" واعتبار الشعر وسيلة لا غاية ، وهو بهذا يخدم التوجه الأصيل لدور الشعر في تشكيل وجدان الأمة واعتياد مواطن عزتها وكرامتها من خلال التفاعل القوي مع قضايا الأمة والتأثر بها. ولعلنا نجد أنه ممن يحمل هم أمته عموماً ، وهموم بيت المقدس خصوصاً فنجده يعيش صلاح الدين حالة شعرية تتكرر أسوق منها هنا:
كان الشيخُ يهزّ المنبَرَ
حين استرسلَ يدعو لفلسطينْ
وأنا كادت أن تخنقني العبرةُ لما كنتُ أرددها:
"آمينْ...
.. آمينْ"
بعد صلاةِ الجمعة قمتُ سألتُ الشيخَ:
"أترجع أرضُ القدس إلينا في يومٍ يشبه حطينْ؟!"
فأجابَ: "نعم"
فسألتُ: "متى؟!"
فأجاب بصوتٍ جدِ حزينْ:
"حين يعودُ صلاحُ الدين"
فسألتُ: "أينفخ ربي فيه الروحَ
ويُبعَثُ ثانيةً؟!"
هزّ الشيخُ الرأسَ..
فقلتُ: "متى؟!"
فأجاب: "الأمر بديهيٌ جداً...
سوف يعود صلاحُ الدينْ
حين يزول فسادُ الدينْ"
وهنا نجده يذهب حد الخرافة لإسقاط معان يريدها ، لنقرأ له قوله في قصيدته الفانوس:
لك أن تطلب ما يحلو لكْ
إلا شيئاً بين الأشياء وحيداً
لا يمكنني تحقيقُهْ "
فسألتْ: "وما هذا الشيء؟"
فأجاب: "اطلبْ.. في الغالب لن يخطرَ في رأسك"
أعماني فيضُ فضولي.. قلت:
"أخبرني ما هو.. ثم انصرف الحينْ"
فأجاب: "اطلبْ ما تبغيه من "تلبانةَ*" حتى الصينْ
لكن لا تطلبْ تحريرَ فلسطينْ
هذا المطلبُ لا تنفذه قوةُ عفريتٍ
يخرج من مصباحِ علاءِ الدينْ
بل يحتاجُ لآخر أقوى
يسكن في مصباح
...صلاحِ الدين"
ولا يتوقف همه على حدود القدس ، بل هو ينظر للأمة وهمها في حالتها الحزينة نظرة منفطر الفؤاد أسيف ، وفي قصيدته التي نقشها على الجدار العربي نسمع نجواه وهمه وهو يقول:
الكعبـةُ احتسبـتْ فـي اللهِ قتـلانـا والبيتُ قـامَ لنـا يبكـي .. فأبكانـا والأزهـرُ انفطـرتْ حزنـاً مـآذنُـه والنيـلُ نـام علـى شطّيـه ظمآنـا المغـربُ العربـيُّ اغتـمَّ ساحـلُـه وفي الجزيـرةِ شـادَ الحـزنُ بنيانـا نوائبُ الدهـرِ نالـتْ مـن عروبتِنـا وأنطـق الخَطْـبُ أحجـاراً وجدرانـا نستوقف الشمسَ.. نستجدي إنارتَهـا حيناً تجودُ.. وتأبـى الجـودَ أحيانـا "بغدادُ" تسبح في فقٍـر وفـي مـرضٍ والموتُ طوّق فـي الظلمـاءِ "لبنانـا" نهرُ الفـراتِ أسـالَ الحـزنُ دمعتَـه بكـى كهـولاً وأطفـالاً و"جـولانـا" قوائمُ الجـوع ضمّـت فـي طليعِتهـا من أمة العُرْبِ "صومـالاً" و"سودانـا" تنعى "الجزائرُ" في الإصباحِ زهرتَهـا فتكسف الشمسُ مـن أعـدادِ قتلانـا "ليبيا" تداري عـن العينيـن شدَّتَهـا تحت الحصارِ.. وترجو عفو مولانـا! و"القدسُ" تُجلدُ قهـراً بيـن أعيننِـا كأنما ارتكبـتْ فـي الأرض نكرانـا
وفي هذه القصيدة كما في العديد غيرها نجد أن النفس الشعري عند الشعر يستطيع أن يطول بما شاء من غير أن ينتقص من فصاحة قوله وجزالة لفظه شيئاً مما يؤكد على أن منهجه في شذرات الشعر المدهشة لا يأتي عن عجز بل عن قناعة ، وهذه القدرة على كتابة المطولات يبرز لنا جمالية تفرده بألق كتابة الومضات الشعرية أو الشذرات المدهشة كما أحب أن أسميها.
ولعلني وأنا أحاول أن أغالب ضيق الوقت أشير قبل التوقف إلى أن الشاعر إكرامي قورة هو من الشعراء القلائل الذين يجيدون بشكل متقارب الكتابة على أسلوب الشعر الأصيل وأسلوب شعر التفعيلة ، وأنه من الشعراء الذين يمكن لهم أن يصبحوا أحد علامات هذا العصر الأدبية متى ما أحتفل باللفظ الجزل أكثر ، ومتى ما التزم المنهج الذي يميزه خاصة بشكل أدق واشمل.
هي قراءة مرتجلة ومستعجلة لشاعر أحب أسلوبه وأحب خلقه على وعد مني بأن أعود بقراءات أكثر تفصيلاً لأشعاره متى جاد علي الوقت ببعض فراغ.
تحياتي