من أغرب الرثاء أن يرثي أحدهم عدوا كان صديقا له في الماضي ، فنرى الشاعر يتأرجح بين عواطفه في هذه الصورة الكئيبة ، وهذا مافعله أبو بكر الخوارزمي وأجاد في قصيدة إبداعية هي من عيون المراثي رثى بها أبا سعيد الشبيبي، ذكر بعضا من أبياتها الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه الظريف طرائف ومسامرات :
أيدري السيف أيَّ فتىً يبيدُ***وأيَّة غايةٍ أضحى يريدُ
لقد صادت يدُ الأيام طيراً***تضيق به حبالةُ من يصيدُ
وأصبح في الصعيد أبو سعيدٍ***ألا إن الصعيد به سعيد
وقد كانت تضيق الأرض عنه***فلِمْ َوِسَعْت لجثَّته اللحودُ
بلى مسَّ الثرى قلباً رحيباً***فأعدى التربَ فاتّسع الصعيدُ
فلا أدري أأضحك أم سأبكي***وتهدمني المنيَّةُ أو تشيدُ
صديقٌ قد فقدناه قديمٌ***وثكل قد وجدناه جديدُ
مصابٌ وهو عند الناس نُعمى***ونحسٌ وهو عند الناس عيدُ
تهنّيني الأنام به ولكن***تعزّيني المواثق والعهودُ
وسيفٌ قد ضربت به مراراً***فمن ضرباته بي لي شهودُ
فلما أن تفلّل ظَلْتُ أبكي***وعندي منه فعُد دمٌ جسيدُ
ومن عجب الليالي أنّ خصمي***يَبيد وأن حزني لا يَبيدُ
وأن النصف من عيني جمودٌ***وأن النصف من قلبي جليدُ
إذا سفحت عليه دموع عيني***نهاها الهجر منه والصدودُ
وآثارٌ له عندي قباحٌ***يجمّش بينها الرأس الحديدُ
فنصفٌ من مدامعها سخينٌ***ونصفٌ من مدامعها برودُ
فمن هذا رأى في الناس مثلي***أريد من المنى ما لا أريدُ
ومن نكد المنيةِ فَقْدُ حرّ***تخالف فيه إخواني الشهودُ
فذا هنّى وقال مضى عدوٌّ***وذا عزَّى وقال مضى وديدُ
رأيت العقل ينفع وهو قَصْدٌ***ويلقي في المهالك إذ يزيدُ
كمثل الدرع إن خفّتْ أجنَّت***وإنَّ ثقُلتْ فحاملها جهيدُ
ومثل الماء يروي منه قصْدٌ***ويقتل منه بالغرق المزيدُ
شهدت بأنَّ دهراً عشت فيه***ومتُّ مقيَّداً فرداً مبيدُ
وقالوا البحر جزرٌ ثم مدٌّ***فمالك قد جزرت ولا تعودُ
بكيت عليك بالعين التي لم***تزل من سوء فعلك بي تجودُ
فقد أبكيتني حيّاً وميتاً***فقل لي أيُّ فعليك الرشيدُ
فها أنا ذا المهنأ والمعزّى***وها أنا ذا المباغض والودودُ
وها أنا ذا المصاب بك المعافى***وها أنا ذا الشقيُّ بك السعيدُ
لقد غادرتني في كلِّ حالٍ***أذمُّ الدهر فيك وأستزيدُ
فلا يومٌ تموت به مجيدٌ***ولا يومٌ تعيش به حميدُ
وما أصبحت إلا مثل ضرسٍ***تأكَّل فهو موجودٌ فقيدُ
ففي تركي له داءٌ دويٌّ***وفي قلعي له ألمٌ شديدُ
فلا تبعد إقامة رسم حقٍ***وأنَّك أنت للشيء البعيدُ
وإنك أنت لَلسيفُ الحديد***وإنك أنت َللعلمُ السديدُ
وإنك أنت لَلدنيا جميعاً***ولكن ليس للدنيا خلودُ