بسم الله الرحمن الرحيم
العشق بين الجرأة والفضيلة
بقلم : ياسر ميمو
( الجزء الرابع )
قلت لها : إن المرأة الشرقية إذا تمنت لقاء فارسها , في إحدى الممالك السعيدة
فإن أمنيتها لن تبصر الحياة إلا في مملكة الزوجية , و كل الطرق الآمنة المُودية إليها
لا بُد أن تُضاء بمصابيح الرعاية والحفظ لجوهرة الحياء , لتكون بها على الدوام , قوية
كالجبل في شموخه, جميلةً كالبدر في تمامه , نقيةً كالنبع في عذوبته, نفيسةً كاللؤلؤ في ندرته
وإذا ما اصطدمت سهام الحب المسمومة بشغاف القلب , فإنها سرعان ما ترتد دون أن
تُحدث أي ثقب في جُنبات طهره , ليبقى خفر العذارى , هو أنجع لقاح من أمراض العشق
وعلله .
وكما أن الفارس لا يتخلى عن سيفه عند عناق السيوف للسيوف , و الأم لا تترك صغيرها يلعب
بجوار أوكار الأفاعي, والراعي لا يأمن على غنمه من غدر الذئاب , فإن المرأة الشرقية
السلطانة على قلبها , العزيزة في نفسها , الكريمة في أهلها , لا تتخلى عن تاج أنوثتها
المصنوع من حيائها , والرجل الشرقي المُعتز بفضائل الرجولة , لا يأنس ولا يطمئن لسماع
كلمة أحبك من أنثى , لا ترقى إلى مرتبة الزوجة , ولعمري لو سُئلت الرزيلة عن بنت عمها
الوقاحة لأجابت : إنها كلمة أحبك , عندما تخرج من عاشقة إلى رجل أجنبي عنها .
وعندي إن المرأة الشرقية إذا اشتد عليها مرض العشق , كان خلاصها في تمسكها بحبائل
الصبر والحلم , فمن ترك محبوبه حراماً بُذل له حلالاً , أو أعاضه الله خيراً منه
وإن أبى عليها العشق تمنعها عن الخطيئة , فلتبعث بأحد أرحامها من الرجال , أو أرحامه
من النساء , ممن تثق بحكمتهم وخلقهم , ليعرضوا عليه المسألة , عرضاً يليق بحرة أبية
لا بجارية ذليلة , و لتحرص على أن يكون فارسها ممن ترضى بخلقه وصلاحه
وممن رجح عندها كفة قبوله على رفضه , لتحفظ بذلك لنفسها كرامتها وعفتها , ولقلبها
سلامته من الجرح والأذى .
ثم إن الرجل الشرقي الغيور , عندما يعود له رشده , يُصدرُ أشد الأحكام , و أكثرها تجريحاً
وتشهيراً بحق المرأة , التي تستجيب لرغباته و أهواءه , ونزواته استجابةً تامة , حتى لو
تغطت تلك الاستجابة برداء الحب , بل لو قُدِر ارتباطهما , فإنه مما لا جدال فيه أن تساوره
الشكوك والظنون , حيال تصرفاتها , فهي ارتضت أن تقيم علاقة معه , وهو أجنبي
عنها ما حجزها عن ذلك وازع أو رداع , فما يمنعها من إقامة علاقة مع غيره ما دام غياب
الوازع الديني والأخلاقي , هو سيد الموقف في الحالتين .
وأمّا فارسك فهو نصف المسألة و الخطيئة , وإن كان لا يُلام على ركوبه لسفينة العشق , إلا
أن كثيراً من اللوم يقع على قيادته الدفة بشكل خاطىء ومتهور , مما تسبب بإغراقها بعد
ارتطامها بشُعب الشيطان المرجانية , واشتداد ريح العشق , واضطراب أمواج الهوى
و غلبة الضباب على شمس البصيرة , وإن كان مُخلصاً لدينه و وطنه , وعمله وصحبه
إلا أنه خائن ٌلأهلك بامتياز , مادامت أبواب الخيانة كثيرة , وبوسع أي واحدٍ منا
طرق أي بابٍ من أبوابها
قاطعتني باستغراب حمل نبرة استنكار : ولكنها خيانة مشروعة بشفاعة الحب , والضرورات
تبيح المحظورات , و أصحاب المقام الرفيع , قد أعمى الغرور والتعجرف بصيرتهم , وباتوا
في ظلام الكبر يعمهون , ولذلك لا أرى في خيانتهم إلا قمة الوفاء لقضية حبنا المقدسة .
قلت لها : إن النار لا تطفئها النار, فلا يجوز لعاشقك الرد على رذيلة الغرور برذيلة الخيانة
و العاشق الشرقي الخائن لأهل حبيبته بتواصله معها من نوافذ القصر, ليرتكب خطيئةً
مُتحركة , ناطقةً بسوء فعله أينما حلت , وهو بها إما مُكتسب لرذيلة النذالة إذا لم يرتضيها
لعرضه وقبلها لأعراض الناس , أوغارق بمستنقع الدياثة , إذا أعرض عن هتك عرضه
بذريعة المدنية والتحضر والعالم الجديد , و إذا أردنا حسن الظن بفارسك , أرجعنا
خطيئته إلى طبيعته الانسانية , المجبولة على الضعف , أمام كل ما يغريها من متاع
الفانية .
أطرقت رأسها إلى الأرض , وعيناه تطيلان النظر في اللاشيء , ثم رفعت رأسها لتسألني
وبمنتهى الجدية والحزم : وماذا عن أصحاب المقام الرفيع!!!!
قلت لها : أختي الفاضلة إن الإسلام أعلى من شأن الزواج في حياة الناس , و ارتقى به
من علاقة جنسية بهيمية , إلى علاقة انسانية راقية , و لكي يضمن لتلك العلاقة الديمومة
والمتانة , أرسى قواعد اخلاقية واجتماعية ودينية , لتكون هي البوصلة الراشدة إلى مجتمعٍ
فاضلٍ متماسك كما أنه لم يُنكر خلجات القلوب , و لا مشاعر الحب والود بين الرجل والمرأة
بل على العكس , اعترف بها و احتضنها , وهذبها , و عاملها كما يُعامل البستاني وروده
فلا يغرسها إلا في تُربة صالحةٍ للنمو والحياة , والتربة الصالحة للحب المُزهر , هي تربة
الزواج , و بذلك نفهم قوله عليه الصلاة و السلام ( لم نر للمتحابين مثل النكاح ) .
إن قصتك ليست قضية شخصية , بل تهم المجتمع بأسره , ما دامت صلة الأرحام , وحفظ
الأنساب , و حصانة المجتمعات , وتوثيق عرى المحبة بين العائلات , وتربية الناشئة
هي من مقاصد الزواج الذي تحلمين به , ولذلك كان في قبول أو رفض أصحاب المقام الرفيع
على زواجك من هذا الشاب , الأثر البالغ , و القول الفصل في حسم المسألة , فرضاهم
بتزويجك ممن تحبين , هو أمر واجبٌ اشترطه الشرع , وسنه القانون , و أقره العرف
فالمرأة لا تزوج نفسها , بل يزوجها وليها , أو القاضي إذا ما اشتكت له تعنت أهلها , وثبت
عنده زيف أسباب رفضهم للخاطب , ولجوؤك للقضاء ربما سيكون له الأثر السلبي في نفوسهم
مما قد يبعث الحزن والأسى في أفئدتهم , فينكرون صنيعك , ويقطعوا حبائل رحمك .
قالت باستغراب حمل نبرة الاستنكار : ولكنني أعلم عشاقاً تجرؤا على الفضيلة , واعتدوا عليها
برذائل الخيانة , والنذالة , والدياثة , فتبادلوا رسائل الحب المحرمة , وتلاقوا بعيداً عن أعين
الناس , وسكرت آذانهم , بكلمات الحب المعسولة , والمسمومة بسخرية الشياطين , و بهجتهم
من وقاحة العشاق , و بعضهم سقط في مستنقع الزنا من قبلات ولمسات , وأشياء أخرى
أساءت إلى قضية الحب المقدسة , ورغم سوء صنيعهم , ورغم تلك الصورة القاتمة لحبهم
بارك الأهل والعوام خطيئتهم , وهللوابها , وأغلقوا مسامعهم وأبصارهم , وقلوبهم بغشاوة
الحب الملوث , وعمت الأفراح في أرجاء الحي , وعاشوا حياتهم سعداء بما أثمر عشقهم .
وأعرف عُشاقاً آخرين ارتكبوا خطيئتهم , ثم كتموا السّر عن الجميع , ودفنوه في صندوق
الكتمان , ولما استقرت سفينة طيشهم في إحدى شواطئ المملكة الزوجية , باتوا لايعبئون
بمن يكتشف سرّ ذلك الصندوق , ما دام ما كان إصلاحه في الماضي مُمكناً , بات الآن
في حُكم المستحيل , وليس للعطار أن يُصلح ما أفسده العشاق , ولما أراد العشق أن يرميني
بسهامه , لم يجد غير سهام الخذلان والألم , لتخترق قلبي دون رحمة أو شفقة , تاركة جرحاً
عميقاً لا يندمل , ودمعاً مدراراً لا ينقطع .
قلت لها : ولِمَ الدهشة والغرابة , نعم هم نجحوا دخول مملكة الزوجية , لكنها مملكة هجرتها
الملائكة , ورتعت بها الشياطين , ما داموا هم الذين مهدوا الطريق للوصول إليها , نعم
أصبحوا سعداء , لكنها سعادة لها حكم ساعة الرمل , تبدأ ممتلئة ثم لا لبث أن تتناقص حتى
تنتهي دورتها , مع سقوط آخر حبة رملٍ , لتنقلب إلى همٍ ونكد , وشجار وخلاف
لأن السعادة الحقيقية تبدأ بعد الزواج لا قبله , نعم حصل زواجهم على مباركة أهل
الأرض , لكنه لن يحظى يوماً بمباركة السماء , التي لا تقبل من العمل إلا أطيبه .
سيكشف هؤلاء العشاق جوانب مستورة و خفية عن شخصية الحبيب , لم تكن لترتسم
ملامحها في أيام الرومانسية المفرطة , والمثالية المقنعة , لم يعلموا أن الحبيب هو في النهاية
انسان , يغضب يثور , ينفعل , يخطىء , له عيوبه ومسالبه , حماقاته ومغامراته , طباعه
و أفكاره , مصالحه وغاياته , كل هذه الحقائق ستنبت أشواكها رويداً رويداً في منزل
الزوجية , لتجرح كل ساكنيه بألمٍ لا ينفع معه الندم , فهل تقبل نفسك الكريمة , وقلبك الطاهر
زواجاً كهذا , له مظهر القصر لكنه أوهن من بيت العنكبوت .
قالت : آه ...آه.....آه ويلي من الحب وعذاباته , و من قلبي وعثراته , و من حبيبي وحماقاته
ناشدتك الله يا أخي , كيف لي الخروج من هذا النفق المظلم ثم ......... بكت
يتبع إن شاء الله
هذا وما الفضل إلا من الرحمن