فصل المقال فيما بين فلسفة البشر وحكمة القرآن من الانفصال عند الحكيم بديع الزمان (1)
أ.د. طه عبد الرحمن | كلية الآداب، جامعة محمد الخامس - المغرب.
نستهل هذا البحث باتخاذ إجراء اصطلاحي أساسي، وهو أن نخصص (من الآن فصاعدا) لفظ «الفلسفة» بالدلالة على المعرفة التي وضعها الإنسان من عنده، فنقول: «الفلسفة الإنسانية»، ولا نقول: «الفلسفة القرآنية»، كما نخصص لفظ «الحكمة» بالدلالة على المعرفة التي جاء بها الوحي من عند الله، فنقول: «الحكمة الإلهية»، ولا نقول: «الحكمة الفلسفية» أو «حكمة الفلاسفة»، ولا بالأوْلى نُطلق اسم «علم الحكمة» على الفلسفة، ولا اسم «الحكماء» على الفلاسفة.(1)
ولا يخفى أن هذا الإجراء الاصطلاحي يضاد كليا نظيره الذي قام به ابن رشد، فقد خص كلمة «الحكمة» بإفادة معنى «الفلسفة» في مقابل «الشريعة» كما جاء ذلك في عنوان كتابه المعروف: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال؛ ومن شأن تخصيص الفلسفة بالحكمة ومقابلتها بالشريعة أن يوهم بأن الحكمة اجتمعت كلُّها في الفلسفة وأن الشريعة ليس شيء فيها حكمة، بحيث تَرِد على هذا الإجراء شبهة التخليط أو التغليط؛ ولا دفع لهذه الشبهة إلا بتغيير عنوان هذا الكتاب بأحد الطريقين: إما الاستبدال أو التقييد؛ والطريق الأول منهما يقوم في أن نضع لفظ «الفلسفة» مكان لفظ «الحكمة»، فنقول: فصل المقال فيما بين الفلسفة والشريعة من الاتصال، ولا سيما أن المصطلح الذي اختار ابن رشد أن يستعمله في أول كلامه في كتابه هذا هو لفظ «الفلسفة»، وليس لفظ «الحكمة»؛ والطريق الثاني يقوم في أن نخصص طرف الحكمة من طرفَي هذه المقابلة بواسطة الإضافة، فنقول: فصل المقال فيما بين حكمة الفلسفة وحكمة الشريعة من الاتصال أو نخصصه بواسطة الإسناد، فنقول: فصل المقال فيما بين الحكمة الفلسفية والحكمة الشرعية من الاتصال.
وبعد هذا التوضيح الاصطلاحي الضروري، نتَّبع في عرض موقف بديع الزمان من العلاقة بين «الفلسفة» و «الحكمة» الطريق الذي يُؤثِر هو نفسه اتباعَه في بسط أفكاره وآرائه، لأننا نكون بذلك أقرب إلى فهم هذا الموقف مما لو نحن نتَّبع في ذلك طريقا غيرَه من طرق العرض والإيضاح والتحليل المعلومة؛ وليس هذا الطريق المفضَّل لدى بديع الزمان إلا طريق التمثيل والتشبيه؛ فلنوضح إذن موقفه من هذه العلاقة بتشبيه تمثيلي مخصوص نتأوَّله ونتعرف من خلاله على الصفات التي يتميز بها هذا الموقف؛ وليكن هذا التشبيه كالتالي:
فكما أن «كوبيرنيك» أحدث انقلابا في تصور العلاقة بين الأرض والشمس،(2) فكذلك بديع الزمان أحدث انقلابا في تصور العلاقة بين الفلسفة والحكمة، أو قُل على جهة التشبيه، بين أرض الفلسفة وشمس الحكمة؛ غير أن هذا الانقلاب الجديد أخذ مسارا معاكسا لانقلاب فكري آخر نُعِت هو أيضا بكونه «كوبرنيكيا»، وهو بالذات الانقلاب الذي أحدثه «كانط» في تصور العلاقة بين الذات العارفة والموضوع المعروف؛(3) فيتعين إذن أن نحدد خصوصية انقلاب بديع الزمان -هذه الخصوصية التي تَثْبُت له معها الصفة «الكوبرنيكية» وتنتفي عنه الصفة «الكانطية»- كما يتعين تحديد نوع الإنسان الذي يتولد من هذا الانقلاب الفكري الجديد.