2. الفصل الاستبدالي بين الفلسفة والحكمة: يستبعد بديع الزمان أيضا جمع التصاحب بين الفلسفة والحكمة، ويأخذ بتفريق -أو فصل- في النوع (أو الطبيعة) بينهما، ممارسا لآلية الاستبدال عليهما؛ ومقتضى الاستبدال هنا هو جعل الشيء بدلا من غيره، بحيث يصير البدل قائما بوظائف المُبدَل منه على أحسن وجه؛ وحينئذ، تصبح الحكمة عند بديع الزمان بديلا عن الفلسفة، ناهضة على أفضل وجه بالمبادئ الثلاثة التي تدعي الفلسفة الاختصاص بها، أي "مبدأ الاندهاش" و"مبدأ الاستشكال" و"مبدأ الاستدلال"؛ وتوضيح ذلك كما يلي:
أ- مبدأ الاندهاش: يرى بديع الزمان أن الصورة الأبلغ والأكمل لمبدإ الاندهاش تتحقق في حكمة القرآن المبين، وذلك من وجهين:
• أن القرآن يخرق ستار العادة المسدول على الأشياء في أنفسنا وفي الآفاق من حولنا، فيجعلنا نتعجب من الأسرار المودعة فيها ونكتشف ما تنطوي عليه من خوارق القدرة الإلهية وعجائبها العظيمة.
• أن القرآن كلام معجز، ومعلوم أنه لا صفة أبلغ من "الإعجاز" في إثارة الاندهاش، فما بالك إذا كان إعجازا من قبيل الإعجاز القرآني! فعندئذ، لا بد أن يبلغ اندهاش المرء نهايته.
وعلى هذا، فإذا كان التفلسف، كما قيل، يبدأ بالاندهاش، فإن الاندهاش الذي هو بداية الحكمة ليس فوقه اندهاش، حيث إنها تحظى به في تأمل إعجاز القرآن الداعي إلى منتهى الاندهاش، بما أنه هو مَجْلى اسم الحكيم من أسماء الله الحسنى؛ ومن هنا، ندرك لِمَ بدأ بديع الزمان مساره في الحكمة بالاشتعال ببيان إعجاز القرآن، عملا بالرؤية الصادقة التي رآها، وهي رؤية انفلاق الجبل المذكورة أعلاه، إذ جاءه فيها شخص عظيم بِأمر مخصوص، قائلا: "بيِّن إعجاز القرآن".(20)
بـ- مبدأ الاستشكال: يرى بديع الزمان أن الصورة الأصح والأتم لمبدإ الاستشكال تتحقق هي الأخرى في حكمة القرآن، وذلك من وجهين هما:
• أن القرآن يحدد أفضل نطاق يمكن أن توضع فيه الأسئلة، ذلك أن السؤال لا يستقيم إلا إذا دار على مقصد مخصوص، والقرآن له مقاصد أصلية هي: "التوحيد" و"الوحي" و"الآخرة" و"الاستقامة" أو بتعبير بديع الزمان، "إثبات الصانع" و"النبوة" و"الحشر" و"العدالة"؛(21) فما من آية من آياته البينات إلا وتتعلق بمقصد واحد أو أكثر من هذه المقاصد الأربعة، بل إن الآية الواحدة، على قِصَرها، قد تشتمل عليها جميعها، نازلة بذلك منـزلة القرآن كله؛ وأما ما جاء فيه من مقاصد أخرى تتصل بالكائنات وخصائصها، فهو تابع لهذه المقاصد الأربعة وخادم لها؛ وعلى هذا، ينبغي أن تدور أسئلة الحكيم على هذه المقاصد وحدها، ولا تخرج إلى التساؤل عن الخواص الطبيعية للموجودات إلا أن يكون ذلك بغرض تبيُّن هذه المقاصد الأصلية من ورائها.
• أن القرآن يجيب على أفضل وجه عن الأسئلة الموضوعة، فقد تقدم أن هذه الأسئلة ينبغي أن تتعلق بالمقاصد الأربعة المذكورة، أي أن تكون كالتالي: "من أين؟ وبأمر من تأتون؟ مَن سلطانكم ودليلكم وخطيبكم؟ وما تصنعون؟ وإلى أين تصيرون؟"؛(22) والقرآن هو وحده القادر على إيراد الأجوبة الصحيحة على مثل هذه الأسئلة والتي تكون شفاء لما في الصدور.
جـ- مبدأ الاستدلال: يرى بديع الزمان أن الصورة الأشمل والأيقن لمبدإ الاستدلال تتحقق هي الأخرى في القياس التمثيلي الذي تأخذ به حكمة القرآن، وذلك من الوجوه الآتية:
• أن هذا القياس يفيد في إقناع كافة الناس ولا يقتصر على فئة معدودة منهم، كما أنه يتسع لفنون مختلفة ولا ينحصر في فن واحد منها،(23) نظرا لأنه يُلْبس الحقائق المخبَر بها لباس مألوفات الجمهور ومتخيلاته، ولا يكلفه إدراكَها على صورتها المجردة.(24)
• أنه يُمكِّن من تحصيل منظور تقريـبيّ لِما يجاوز طور العقل المجرد من الحقائق الإلهية وشؤون الربوبية،(25) فيكون أقدر من هذا العقل.
• أنه يؤمِّن طاعة الخيال للعقل، فيحُدُّ من تشكيكاته وتهويماته التي تتهدد عادة استدلالاته غير التمثيلية،(26) فيكون أقوى من هذه الاستدلالات.
• أنه يجمع بين الطريقين الإدراكيين المتقابلين للإنسان، وهما: طريق العقل وطريق الوجدان،(27) فيكون استدلالا متكاملا.
• أنه يُثبِت قانونا كليا بإظهار حالة خاصة منه في صورة مثال جزئي؛(28) ومعنى هذا أن المثال عند بديع الزمان ليس مجرد شيء مشابه للشيء المُمَثَّل، بل يحكمه نفس القانون الذي يحكم هذا الشيء، بحيث يكون التمثيل عنده أقرب إلى الاستقراء منه إلى الاستنباط (أو القياس الجامع).(29)
ومما تقدم، يتبين أن الحكمة لا يمكن أن تجتمع مع الفلسفة، لأن الخير والحق يصيران كلَّهما في جانب الحكمة والشرَّ والباطلَ يصيران كلَّهما في جانب الفلسفة، فتكونان متباينتين تباين النوعين؛ لذا، صح أن نسمي هذا الفصل النوعي بينهما باسم "الفصل الاستبدالي"،(30) إذ تصبح الحكمة البديل الذي لا غنى عنه.
ومن شأن العمل بهذا الفصل الثاني أن يُخرج لنا إنسانا متبصرا ومعتبرا ومعترفا وسعيدا وناجيا، أو قل إنسانا مَرْضيا عليه.
وإذا اجتمعت للإنسان الهداية والرضى، كان إنسانا منعَما عليه؛ فإذن الحكيم الذي يختص بكونه يجعل الحكمة تسود الفلسفة، بل يجعلها تستغني كليا عن خدمة الفلسفة يكون حقّا من أولئك الذين أنعم الله عليهم.
وخلاصة القول من هذا التحليل لموقف بديع الزمان من العلاقة بين الفلسفة والحكمة هي أن بديع الزمان انقلب من حال الفيلسوف الذي يوافق فلاسفة الإسلام في القول بالوصل بين الفلسفة والحكمة، إما وصْل تداخل يجلب الضلالة أو وصْل تصاحب يجلب غضب الله، إلى حال الحكيم الذي يقول بضرورة الفصل بينهما، إما فصلا استتباعيا يجلب الهداية، فتكون الفلسفة في خدمة الحكمة، أو فصلا استبداليا يجلب رضى الله، فتكون الحكمة بديلا عن الفلسفة.
وواضح أن هذا الانقلاب انقلاب "كوبيرنيكي" بحق؛ فبعد أن كانت الفلسفة تُعَدّ موصولة بالحكمة، صارت تُعَدّ مفصولة عنها؛ وبعد أن كانت الفلسفة تستتبع الحكمة في حالة الاختلاف بينهما، أصبحت الحكمة هي التي تستتبع الفلسفة في حالة الاتفاق بينهما؛ وبعد أن كانت الفلسفة تضاهي الحكمة وجودا، أضحت لا تضاهيها في هذا الوجود، بل أضحت تفقده بوجود الحكمة.
وحينئذ، لا نستغرب أن يلح بديع الزمان أيما إلحاح على وجود طورين متضادين في حياته: سعيد القديم وسعيد الجديد؛ ولذا، نعتقد أن العناصر التي تفرِّق بين هذين الطورين ينبغي البحث عنها في الموقفين المتعارضين اللذين وقفهما من العلاقة بين الفلسفة والحكمة، بحيث يكون الوصل بينهما هو المعيارَ الذي نحدد به فكر سعيد القديم ويكون الفصل بينهما هو المعيار الذي نحدد به فكر سعيد الجديد.
لكن هذا الانقلاب "الكوبيرنيكي" هو نقيض للانقلاب "الكوبيرنيكي" الذي قام به "كانط"؛ فإذا كان "كانط" قد جعل الحكمة تابعة للفلسفة في حال اتفاقهما، فإن بديع الزمان، على العكس من ذلك، يجعل الفلسفة تابعة للحكمة في الحال ذاته؛ وإذا كان "كانط" قد جعل الفلسفة بديلا عن الحكمة في حال تعارضهما، فإن بديع الزمان، على العكس من ذلك، يجعل الحكمة بديلا عن الفلسفة في الحال ذاته.
ومن هنا، يظهر جليّا أن البعد الذي يكتسبه إنتاج بديع الزمان لا ينحصر في تركيا حيث آثار الفلسفة "الكانطية" قد فعلت فعلها وبدَّلت قِيَم أهلها تبديلا، ولا هو ينحصر في الأمة الإسلامية التي تفككت أوصالها وفقدت وِجهتها، وإنما يتعدى ذلك إلى العالم بأسْره لِيُنقذ الإنسان، خاصِيَّه وعامِيَّه، من سلطان فكر فلسفي أضرَّ بوجوده في هذا العالم؛ ومن كان هذا عمله، فما أجدر به أن يُعدَّ في حكماء العالم الذين رفعوا همة الإنسان إلى الاضطلاع بأمور روحه كاضطلاعه بأمور جسمه، ومهّدوا الطريق إلى تجديده، فاستوى إنسانا آخر في عالم آخر.