https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=55229
قراءة في قصيدة: قال لي حلم المساء ( لرفعت زيتون)
.
قالَ لي حُلمُ المساء
الصّمتُ ثغرٌ أخرسُ
كالحرفِ في لغةِ القبورِ
فلا تمتْ منْ قبلِ موتكَ
قمْ إلى الشّطرِ الفسيحِ
فإنّهُ لكَ منذُ أنْ وُلدَ الضّياءُ
وخذْ لنفسكَ ما تريدْ
قصيدة رائعة، ومن أنجح ما تكون لعلاج حالات اليأس والاكتئاب... ودعوة للتّمرّد على الذّات التي أخرستها الكآبة، أو غيرها من الصّعوبات والمحبطات...
أراها تعمل على الدّاخل الإنساني، والنّفسيّة. فإن ذوّتت النّفس الكلمات، فإنّها ستصبح خطابا تسمعه خلايا الجسد،وتردّده وتنصاع له.
العنوان: (قال لي حلم المساء) يوحي لأوّل وهلة أنّ القصيدة أساسها حلم؛ ليكتشف بعد القراءة أنّها ثورة على صمت الواقع... والحلم الذي قاله المساء هو الواقع المطلوب.
الصّمت ثغر أخرس... الثّغر هو مصدر الكلام ، والكلام عكس الصّمت. إذن، فهو يخرس الكلمة. وتظهر صعوبة التّشخيص من البداية... وهو كالحرف في لغة القبور . لا توجد لغة في القبور ولا حروف، أي هو لا قيمة له( موت).. وصف ساخر
فلا تمت من قبل موتك ... دعوة للحياة ... فالموت قادم، ولمَ نستبقه؟
قم إلى الشطر الفسيح
فإنّهُ لكَ منذُ أنْ وُلدَ الضّياءُ
وخذْ لنفسكَ ما تريدْ
صورة رائعة، ودعوة للتّجوال في فسيح المساحات المعدّة له، منذ رأى النّور الذي ولد وإيّاه، وأخذ مايريد... تشجيع مع طمأنة الحصول على ما يبغي.
وانفضْ غبارَ العجزِ
عنْ كلِّ الصّحائفِ
لا تفرّطْ بالرّبيعِ
وضَحكةِ الشّمسِ الجميلةِ
عندَ فجركَ
عدْ إليكَ .. أما شبعتَ منَ الغيابِ
فقمْ لنفسكَ منْ جديدْ
الغبار يمنع رؤية الأشياء على حقيقتها، والعجز يضعف ويلغي القوّة، فيجب نفضه. أي يجب إزالة كلّ المعيقات من صفحات الحياة، وعدم التّفريط بالرّبيع - وصف رائع لإعطاء الأمور قيمة جماليّة وفائدة، فالرّبيع هو الوفرة والخصب والجمال... وضحكة الشّمس عند الفجر ... سرور وفرح مع بداية جديدة .. فالفجر فيه ولادة يوم جديد، وإذا كان مقرونا بضحكة الشّمس، فهو الحظّ والحياة... عد إلى ذاتك، أي عش الحاضر، يكفي الغياب عنها ، ويجب العودة من جديد
خمسة أفعال في صيغة الأمر، واثنان نهي في فقرتين... هذا يعني أنّ التّوجه فيه طلب وأمر لأهميّته وفيه إلحاح على اتبّاع ما يؤمر به!
والماءُ يفسدُ في سكونِ الليلِ
فافتحْ جدولًا واسقِ الصّباحَ
ولا تُغَلّقْ بابَ قلبكَ
قالَ لي حلمُ المساءِ
بأنّ نهرَ الحبِّ عندَ لقائهِ
معَ زهرةِ الأوركيدِ غنّتْ وارتوتْ
وتناثرَ البِلّورُ في
وجهِ الصّعيدْ
مع أنّ الماء هو رمز الحياة، لكن إن ركد يصبح ماء آسنا عفنا لا جدوى منه... الماء يجب أن يكون جاريا كي يعطي خيراته ، لذا يجب ـأن تجعله جاريا بيديك في الصّباح... والصّباح هو بداية اليوم، بداية الحياة، فإن حظيت بالحركة كانت حياة حيويّة ...أي اجعل حياتك وفيرة... ولا تغلّق- والتّضعيف هنا مقصود للمبالغة والقصديّة- باب قلبك، فحلم المساء أخبر الشّاعر أن التقاء ماء نهر الحبّ بزهرة الأوركيد جعلها تغنّي وترتوي... جاء الغناء قبل الارتواء، إشارة إلى أنّ قليلا ممّا يفرح ينشر الطّرب، وإن كانت هناك حاجة للارتواء، وهو حاجة أساسيّة، ولكنّه هنا ارتواء من ماء المحبّة... صورة جماليّة تكامليّة مزدوجة، النّهر = الارتواء ، الحبّ= الغناء
وتناثر أجمل الزّجاج وهو البلّور على وجه الصّعيد ... الجمال يجرّ الجمال
سرْ فوقَ وهمكَ
لا تُصدِّقْ قيدكَ المكتظَّ
وابحثْ في ثقوبِ النّايِ عنْ
تفسيرِ شدوكَ
قالَ لي طيرُ السّماءِ
بأنَّ صوتَ النّاي يعشقهُ النّشيدْ
دعوة للسّير وراء الوهم، وهو هنا بمعنى الأحلام الجميلة، وعدم تصديق ما يقيّد من أفكار متعاقبة ودعوة أجمل للإنشاد، وفهم ذاك النّشيد الخارج من ثقوب النّاي، وهي آلة العزف التي تعشقها الكلمات (النّشيد) ، والطّير المحلّق يخبر بذلك . وكأنّي أرى دعوة للتّحليق في سماء الإنشاد للشّعور بالفرح والسّكينة، وليس بالصّخب في أرض الغناء؛ لذلك اختار الشّاعر بدقّة كلمة ( النّشيد) ؛ لأنّ الغناء مرتبط باللّهو والغزل، بينما الإنشاد قد يكون روحيّا، وغير مرتبط بالشّهوات الجسديّة... والصّوت رمز الحياة، عكس السّكوت رمز الموت.
أشعلْ سراجًا في ظلامِ النّفسِ
تكفي جذوةٌ في الليلِ
توقَدُ في البعيدِ لفتحِ آفاقِ السّكينةِ
في العذابِ
فإنْ آنستَ حبًّا لا تنمْ
فلعلَّ دفئًا في لواحظِ شمعةٍ
قدْ يهتدي لعيونِ بردِكَ في الدّجى
فيذيبُ في النّفسِ الجليدْ
النّفس المتشائمة الصّامتة تعيش في ظلام .. وهنا المطالبة بإشعال سراج؛ كي يضيء دواخلها، فقليل من النّار(الجذوة) تنير ظلمة الليل، وتبعث الاطمئنان، والسّكينة المطلقة في قلب من يسير متوجّسا في الظّلام ... ربط جميل وقويّ بين الأمل (سراج النّفس) وبين جذوة النّار في الظّلام (سراج يبدّد الظلمة)... فالظّلام يبعث الخوف في قلب الماشي ليلا. والأجمل ربط الحبّ بالجذوة فهو أنس ولا يجب على من يجده أن لا ينام لئلا يخسره، ويخسر بخسارته أنس حياته ... وقد يكون الدّفء المنبعث من (عيون) شمعة هاديا للعيون المحتاجة للدّفء والنّور في الظّلام...
لوحة لغويّة جميلة تجمع ما بين نور السّراج والجذوة في الليل؛ لتزرع السّكينة وقت التّيهان، ودفء الحبّ في البرد... وهذا القليل من الدّفء كافٍ؛ ليذيب تجمّد المشاعر التي شبّهت بالجليد نظرا لعدم الاهتمام بأمرها...
يبدو التّناص واضحا مع قصّة النبيّ موسى(آنست) " إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى" ...
فإذا انتهيتَ منَ السّلاسلِ
فالتحقْ بالنّارِ عندَ الوادِ
واخلعْ وهمَكَ الملعونَ
وادنُ منَ اللهيبِ مسافةً
تكفي وصولَكَ للتّبخّرِ
قالَ لي برقُ السّحابِ:
تعالَ وانظرْ كمْ صغيرٌ ذلكَ البحرُ الكبيرُ
إذا نظرتَ إليهِ منْ عينِ البعيدْ
وإذا تخلّصت من القيود، أي الفكر والإحساس الذي يقيّد، فأكمل لتصل النّار عند الواد... النّار رمز المعرفة أو الهدى عكس الضّلالة "أو أجد على النّار هدى" والواد، إشارة الى الوادي المقدّس : {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوى}.. وفي حضرة هذه القدسيّة يجب خلع الوهم الملعون، أي يجب نبذ كلّ الأوهام التي تعيشها، واقترب من اللّهيب مسافة تكفيك للتّبخر، أي للصّعود بمشاعرك للأعلى؛ لتصل السّحاب محلّقا... ويتحوّل الكلام إلى ضمير الغائب (قال لي)
قال برق السّحاب الذي ينذر بخير المطر انظر أيّها الإنسان عن بعد؛ لترى صغر حجم بحر الهموم الذي تراه كبيرا ... إشارة إلى تضخيم الأمور وتعظيمها، وقد لا تستحقّ ذلك.
التّدرّج من الجذوة للنّار للّهيب فيه الاكتمال للوصول لدرجة التّخلّص من الضّيق، وخلعه للتّحليق في السماء متحرّرا من كلّ شيء ( من النّار الخفيفة للأقوى فالأقوى... في التّثليث اكتمال)
فاصنعْ لنفسكَ سلّمًا
نحوَ العلا وصِلِ السّماءَ
فقدْ قدمتَ منَ السّماءِ
ألا تحنُّ لصدرِ أمّكَ يا فتى
فاعصرْ هناكَ الغيمَ
قدْ قالتْ لي الصّحراءُ إنّكَ لنْ تغيبَ
فقدْ ذهبتَ لتملأ الأكوابَ
إنّي ها هنا ومعي الصّحارى
بانتظاركَ إذْ تعودُ
فعدْ إلينا بالغيومِ وناي حبّكَ
عدْ ليكتملَ القصيدْ
بعد بلوغ الأعالي، يطلب الشّاعر التّواصل مع تلك المساحات عبر الصّعود إلى الأعلى ... السّماء.ويكون ذلك عبر سلّم من صنعه هو نفسه... وهنا دعوة للاعتماد على النّفس في بلوغ الدّرجات والمراتب العالية؛ لأنّ أصل القدوم هو من السّماء. وهنا أجد إشارة للقدسيّة التي منحها الله للإنسان في خلقه، وجاء التّساؤل عن الحنين للأمّ ليؤكّد ذلك، فيطلب منه اعتصار الغيم هناك، أي اعتصار الخيرات العلويّة المريحة المطمئنة ... فقد أخبرته الصّحراء، صحراء الهموم والضّياع أنّك ستعود، حيث ذهبت هناك لتملأ الأكواب. صعوبة الأمر على الأرض أشبه بحياة الصّحراء، ولحظات الارتقاء، لا بدّ وأن تكون بعدها عودة للواقع (للصّحارى) ... فيفضّل أن تكون هذه العودة مبللّة بالخيرات والآمال والأحلام الجميلة، والسّعادة (بالغيوم وناي الحبّ)
وفي العودة المثرية هذه تكتمل الحياة( القصيد).
كثرة أفعال الأمر في القصيدة تؤكّد دعوة الشّاعر للتّمرّد على كلّ الصّمت، الذي يعني الموت والعدميّة.