لاعقلانية للحالة الراهنة
ان هناك عدة أسباب تدفع الناس إلى كراهية العقل في الحالة الراهنة، ربما لان هناك رغبات لا تنسجم مع بعضها البعض ولا تريد الحالة الراهنة ان تدرك أنها غير منسجمة، إذ قد نريد ان نزيل حالة كولونيالية ونستعيض عنها بحالة توليتارية ظلامية اقصائية ، أو نريد ان نطيح بنظام اولغاركي لنأتي بدلا منه بنظام دوغمائي وقد يجعلنا تذكير الآخرين لنا ان الاستبدال هو من حيث الشكل والمضمون غير منطقي أو عقلي يجعلنا نكرههم،لأعطي مثالا مقاربا على الحالة اللا عقلية والتي نحاول ان نقنع أنفسنا أنها عقلية وتوافقية أيضا:
إذا كنت مدرسا من الطراز القديم فقد تريد ان تعتقد انك مدرسا مليء بالرحمة الإنسانية نحو الجميع وفي الوقت نفسه تجد اللذة في ضرب التلاميذ، ولكي توفق بين الحالتين وهو توفيق غير عقلي ، لابد ان تقنع نفسك بأن الضرب له اثر مفيد للتلاميذ ، وإذا قال احد المختصين بالتحليل النفسي ان الضرب ليس له اثر من هذا النوع في مجموعة من التلاميذ المشاغبين الذين يضايقونك، ستثور في وجهه وتتهمه بأنه يفكر تفكيرا غير عقلاني.
وهناك دافع أخر أسوء من السابق ، يجعل الناس يحبون ( اللا عقلية). فإن الناس إذا كانوا ( لا عقليين ) بدرجة كافية فقد تستطيع ان تدفعهم على خدمة مصلحتك وهم يتوهمون أنهم يخدمون مصالحهم، وهذه الحالة منتشرة جدا في السياسة، فمعظم السياسيين يصلون إلى مراكزهم عن طريق التأثير في أعداد كبيرة من الناس بحيث يعتقدون ان هؤلاء الزعماء برغبات فاضلة بل وطوباوية إلى ابعد الحدود، ومن المعروف جيدا ان مثل هذا الاعتقاد يكون قبوله أيسر تحت تأثير ألوان الإثارة المختلفة كالخطابة والشعارات البراقة وسيطرة الغوغاء والتحركات الجماهيرية والحروب وهذه جميعها من حالات الإثارة، وأظن ان دعاة اللا عقل يرون في الكسب من وراء خداع الناس أفضل إذا جعلوهم في حالة هياج مستمر.
ولعل السر في ان الآخرين يقولون عني أني عدو الحالة الراهنة أكثر مما ينبغي هو كراهيتي لمثل هذا المسلك، ولكني سأضع أمام الآخرين الإشكالية: لما كان العقل هو تكييف الوسائل تكييفا صحيحا لتلائم الغايات، فإنه لا يمكن ان يعترض عليه أي - العقل - إلا أولئك الذين يعتقدون ان اختيار الناس لوسائل لا تؤدي إلى تحقيق غاياتهم أمر جيد، وهذا يعني أما انه يجب تضليل الناس فيما يتعلق بكيفية تحقيق ما يقولون انه رغباتهم، أو ان غاياتهم يجب ان تكون غير تلك التي يقولون أنها غاياتهم، والحالة الأولى هي حالة شعب ضلله (( رجل دين )) فصيح اللسان، والحالة الثانية هي حالة المدرس الذي يجد متعة في تعذيب التلاميذ ولكنه يريد الاستمرار في الاعتقاد بأنه رجل إنساني رحيم القلب ، ولست اعتقد بأن أيا من هذين الأساسيين لمعارضة العقل يتسم باحترام أخلاقي.
وهناك أساس أخر يعتمد عليه بعض الناس فيما يتخيلون ان العقل يعيق العمل الجماهيري، فهم يعتقدون ان العواطف القوية مرغوب فيها، وانه ليس هناك من يحس بشعور قوي ويفكر فيه بعقل ( الحالة الغرائزية )، ويبدو أنهم يعتقدون ان أي شخص يحس إحساسا قويا يجب ان يفقد اتزانه ويتصرف بطريقة حمقاء يحبذونها لأنها تدل على انه منفعل جدا، بيد أنهم لا يفكرون بهذه الطريقة عندما يكون لخداع النفس نتائج لا يحبونها ، ومتى كان للخداع نتائج صحيحة.
فليس هناك من يذهب إلى ان قائد الجيش يجب ان يكره العدو إلى درجة ان يصبح هستيريا ( بالمعنى الفرويدي) ويفقد قدرته على التخطيط العقلي، كما ان أولئك الذين يحسبون المسائل بعيدا عن العواطف ليسوا دائما شياطين،فـ ( أبراهام لنكولن ) مثلا فكر دون تأثير بالعاطفة بالحرب الأهلية وهاجمه أنصار إلغاء العبودية ، الذين كانوا يريدون منه، باعتبارهم دعاة الانفعال، ان يتخذ إجراءات تبدو شديدة ولكنها ما كانت لتؤدي إلى تحرير العبيد.
وارى ان جوهر الموضوع هو: أني لا اعتقد انه من الصواب ان يكون المرء في تلك الحالة من الهياج الجنوني الذي يفعل الناس تحت تأثيره أشياء لها عواقب تتعارض مباشرة مع ما يقصدونه، أولئك الذين يحبذون مثل هذا التصرف إما أنهم يريدون ان ينافقوا بنجاح أو ان يكونوا ضحايا للون من ألوان خداع النفس لا يحتملون الاستغناء عنه
- الكولونالية: الحكم العسكري ، وهو حالة من الحالات الشمولية القمعية
- التولوتارية: الحكم الشمولي ، تتسم بها الحركات القومية و الدينية باعتقادها أنها الوحيد التي تملك الحل ، وهي الوحيدة التي تمثل الجميع
- الاولغاركية: حكم القلة ، أي ان تقوم أقلية ما حزبية أو اثنيه أو دينية بحكم الأكثرية المختلفة عنها
- الدوغمائية: الجمود العقائدي، مدخل جامد إلى مشكلة معينة، يتجاهل ظروفها المكانية والزمانية ، وهي أمر مميز لكل دين