اِستلقت على سرير يبعدني بأصابع معدودة، بعد أن أنهكتها مشاغل وأعمال البيت، مع ما قد علا جسدها من المرض الذي أخذ منها مأخذه.
اِستلقت قاذفة بجسدها المتعب، وغارقة في إغفاءة؛ هي تدري بأنها لن تطول بها لأن تصير نومة هنيئة مريحة.
فاقتنصت الفرصة، واغتنمت اللحظة: لأمتع وأملأ ناظري بذلك المحيا الجميل، التي خط فيه محراث الزمن ديوان الأيام والليالي،
كأنه شعر حر لا قافية له ولا ميزان.
ورسمت فيه ريشة الأحداث من سائر الألوان، كأنها لوحة توحي لك رؤيتها انها مليئة بكل ألوان وأصناف الحياة.
إنها لحظة نادرة بحق، لأتأمل لون بشرتها التي علاها الشحوب، لأتأمل ثغرها الباسم رغم ما مر عليها من الخطوب، لأملأ عيني من رؤياها إذ أستحي تحقيق النظر إليها وجها لوجه إجلالا واحتراما.
وبينما لا زلت في استراقٍ للنظر وتدقيق، إذ لاقت عيني -انتباهها من غفوتها- عينَها.
وكانت ثوان كأنها زمن سحيق، فللعيون حديث وبيان، كما للألسن حديث وبيان، بل أبلغ وأعمق.
أغمضت طرفي وقد سكن في أعماقي ما أوحت به عيناها، كان شعورا استكن لم أحس بمثله قبل...
فقلت: أماه ... معذرة!
قالت على عجلة: علام يا ولدي؟
أجبتُ بما استطعت قوله من كلمات: على ما مرَّ من مُرِّ الأيام... وخطوب الزمان...
فقاطع اعتذاري صوتها وقد علاه غضب فيه عتاب:
لا، فأنا على ما ترى: لي سعادة القلب، وإيمان بما قضى به الرب.
فلا مُر في الزمان يا بُني ولا خطوب.
فبادرت كلماتها: ألم تصبري على الحمل، والوضع، والرضاعة، والفطام.
ألم تبقى في رعايتي وحيدة إلى الآن.
ألم تتحملي كلام الأهل والجيران.
ألم تخفي دموعك في المواقف الحرجة عن ناظري، ألم تقدمي أغلى ما لديك لأجل خاطري.
أَوَ تظنونني عما حولي غافل لاه...؟
أنت على احتياج منك إلي الآن... لكني لا أملك ولا أستطيع لك شيئا.
فأماه... معذرة
ثم قامت خارجة من الغرفة.
فاستيقظت من جولان الخاطر، الذي سرقته مني رؤية ونظرة من عينيها.
لقد كان حوارا روحيا أملاه ذاك اللقاء على غير ميعاد، حوارا كانت تدور فصوله بين حُرِّ العيون.
تمنيت لو كان ما سطرته على الأوراق: بوحا لها تسمعه، كي تعلم عظيم امتناني لها، وإحساسي بما تلاقيه.
لكن هكذا شاء ربي وقضى.
فكتبته بمداد الحياء خطا على صحيفة من النور، كانت نبضة مديدة بامتداد الحياة، مضيئة بنور المحبة والحنان.