وَرْقَاء دِمْشَقِيَّة
(بَعْدما قَرَرُوا تَسْلِيمهَا أَسْمَال مُمَزَّقَة كانت رَمْزِية الْأَوْطَان و الْأَرْوَاح الْمَسْلُوبَة)
كَان عَلْيهَا أَنّ تُعَجِّل فِيْ مَوْسِم الْهِجْرَة . لَفَحَاتٌ مِن زَمْهَريرِ وَجَدت طَرِيقَها إِلَى رِيشِها فَأدْرَكَتْ أَنّ الْمَوْسِم يُطْوى عَلَى عَجـلٍ هَذا الْعَام لم يُسْعِفُها الوقتُ كي تَزُورَ تِلكَ الأمَاكن التي مَا فتِئت تَطُوفُ عَليها قَبْلَ كُلِ رَحِيل , تُودِعُها , و تَعِدُها بِـِلقاءٍ قَرِيب.
ذَلِكَ الدِّير الْمَهْجُور الذِي عَشْعَشَتْ فِي بَعضِ جَنَباتِهِ نَباتات عَتِيقَة , و التَفْت حَولَ زَوَّايَاهُ . وتِلّكَ الْمَسَاجِد وَالْمَنَابِر التِي تَجْعلُهَا تَنْتَشِي كُلَّمَا رُفِعت مِنْهَا صَلَوَات و كُلَّما غَمَرَتهَا أَشِعَة الشَّمَس بِحَنَانِهَا وَدِفْئهَا .
كَانَت بَاحَات تِلّك الْجَامِعَات مَرْتَعًا لِنُزْهتِها . خُيّل إليها أَنّ هَذه الْأُبْنِيَّة السَّامِقَة شُيدَتْ من لَبَنَات غُمِست فِي نَهْرٍ خَالِدٍ , فَلا يُمْكِن لِلَبْنَة مِنْ تَلِكّ الصُّرُوح أَنّ تَتَزَحْزح قَيْد أَنْمُلَة ولا يُمْكِّن أن تَلُوُّذ قَاعَة مِنْ تِلّكَ الْقَاعَات بِالصَّمْت , و لا لِتِلّك الْمَقَاعِد أن يَعْلوهَا غُبَار فَكَل مَا يُقال فَرِيد مِنْ نَوْعه وَغَزِير الْمَعْرَِفة يَسْتَرعِي النَّفْس فَتَتَمنّى لَوّ أَنّ الزَّمَن يَتوقف لِلَحَظَات فِي ذَلكَ الْمَكَان الخلاب.
شَيَعت الْوَرْقَاء الْمَدِينَة بِنِظْرَةٍ طَبَعتْ بِهَا مَلَامِحهَا فِي جِفْنِها و أَعْقَبَتهَا بِزَفْرَةٍ ثُمّ بَسَطت جَنَاحيها و اسْتَنْفَرَت رِفْقَتَهَا وَكَان الرَّحِيل .
كانت تَشْعُر وَهِي تَشُقّ عَنَان الْغَمَام أَنّ هُناكَ زَحْفًا ضَبَابِيًّا يتجِه لِمّا خَلَفَته وَرَائهَا زَحْفًا تَعْلَوهُ غَبَرَة و كَأَنّ الْغِرْبَانِ قَائِدُهَ و كَأَنّ الْمَوْت هَدَايَاهُ.
تزْدادُ مَسَافَات الْبُعْد ويزْدَادُ الشَّوْق و أَسْكِنتُ الرُّوح فَيِما خُلِفَ وَرَائهَا . أَشْهُرٌ مَضَتْ لَمْ تَشْعُر فِيها الْوُرَقَاء بِأَن تِلّكَ الْأَيَام تَمُتّ لعالمِ الْحَيَاة بِشَيْءٍ رُغْم أَنّ مَا يُحِيطُها في نَظرِ النَّاظِرين و مِقْياسِ الْعَارِفين أَجْمَل قَسْمَات العَالم.
لَكِنَّ الرُّوَح خُلِفت هُنَاك ولا شَيْء يُعَادِل الرُّوَح. كمَا أَنّ تِلّك الْقِطْعَة المُزْدانةُ بِـِجَمالِ آذار و الْقَابِعَة على تِلالِ الْأُنْس وَدِفْء الْوُجُوه و أَصْوَاتِ الْعَابِرين تَسْكُن فِيْهَا.
كُلّ اغْتِرَاب مَتَاع فِي الْحَيَاة سِوَى ........ يَوْمًا يُفَارِق فِيْه الْمُهَّجَة الْجَسَد
بِقَدْر تَبَاطُأ زَمْن الْهِجْرَة بَعِيدًا عَنْ الْوَطْن و اتِّسَاع الْمَسَافَات بِقَدْر تَسَارُع زَمَن الْعَوْدَة وَتَقَلُّص الْمَسَافَات.
تَقْتَرِب الْوَرْقَاء مَعّ سِرْبهَا مُمَنِّيَة النَّفْس بإلتِقَاءِ الرُّوَح بِالْجَسْد. ما أَسْرَع صُرُوف الزَّمَان و تَبْدُل الْأَوْطَان وَتَشَتُّت الْأُخْوَان !! لَمْ تَرَى الْوَرْقَاء غيرَ مَدْيَنَة مَوْؤُودَة تَنْفُث الرَّمَاد .
حَطّتْ الْوَرْقَاء عَلَى بَقَايا مِئْذَنَة مُتَسَائِلة : “ لِمَ لمْ أَأْخُذ عَهْدًا و مَوْثِقًا مِنْ الدَّهْر بِأَن لا يَجُولَ بِيدِهِ على جَنَتِي و مَنْبَع شَراييني و مَسْرَح أَحْلَامِي ؟ لمَ أضْحَت خَاوِيَة عَلَى عُرُوشِهَا و كُلّ شَيْءٍ يُعَلِّوهُ الرُغام , أيُ يدٍ آثِمَةٍ اسْتَباحَت الْحُرَمَات و هَدَمت الدَّوْر والطُّرْقَات؟ لابدَ أَنّهَا لَمْ تَذُق مِن ثَمَرِها وَ لَمْ تَشْرَب مِنْ مَائِها و لا اخْتَلَطَ هَوَاءُ جَنَّتِي بِرِئتِيها".
قَرَر السَّرْب أَنّ يَرْحَل و يَتْرُك تَلِكّ الأطْلاُلَ , و قَرَرت الْوَرْقَاء أَنّ تَظَلّ لَعَلْها تَشْهَد يَوْمًا تَرَى فِيْهِ نُفُوسًا تَتَألقُ وَهَي تُعْمِر جَنَّتهَا و تُبْنِيهَا مِنْ جَدِيد . و مُنِذّ ذَلّك الْيَوْم لَمْ يتوقف هَدِيلُها لعَلّ عَابِر يُغْرِّيه الْبَقَاء فَيحْظى بِهَذَا الْمَجْد