فتاة الغيرة تستيقظ
كان المساء واجما كئيبا !! والليل مكفهرا عابسا في جنبات ضلوع صفوان مما أصابه... جبال ظلامه تطبق على صدره , كما يطبق الباب على فوهة الدار إذا اغلق , بل كما تطبق السماء على الأرض , يراها تحيطه من كل ناحية كما يحيط المدار بكواكبه والفلك بنجومه!!.
وكان يظن أنه إذا أوى إلى فراشه سيتدثر بدثار السكون , ويتغطى بأغطية النوم والراحة ؛ فينفلت من عقال همه, وينفك من قيود ضائقته, بمجرد سفره في رحلة غيبوبته , بعيدا عن شتات أفكاره , ومخالب أوهامه التي تتناوشه من فوقه ومن تحته كما يتناوشُ الوحش فريسته!!.
ولكن هيهات أن تدعه , وسكاكين شكوكه تتبعه أينما حل وارتحل , لقد وجد الشيطان مرتعا خصبا لينفخ فيه ما أراد , بعد أن أوحى لناهد بأن تمكر مكرها وتنفث سمها ـ كما تنفث الحية إذا استوحت الخطرـ بمكيدة كالعقرب ؛ لتفرِّق بينه وبين واحة عمره, وبيدر حدائقه, وشواطئ أحلامه , فعكرت فردوس سعادته, وصفو ابتهاجه!! وأرَّقته بتلك الصورة اللعينة التي تظهر شابا يمد أنفه إليها.
وما يزال يتخبط في ميادين شتاته ومتاهات حيرته من ذلك الحين, لا ليخمد شكوكه في من أحب , ولكن ليرضي أوهام رأسه ونزق نفسه , فهو يعلم أنها أطهر من الطهر وأنقى من النقاء , وقد زكاها كل من عرفها .
فكم رشف كأس المعرفة المترع , مؤمنا بنقاء ما رشف , وموقنا بصفاء ما اغترف , لكنها النفس المتأثرة والغيرة المتنكرة ! فالنفس أمارة لا تستجيب لنداء عقله , ومنطق فكره حين يلجم نزوات جنوحه وانفعال عواطفه من الإفراط والتفريط , والغيرة مستبدة أنانية لا تريد غير رغبتها وإن خالفت الصواب , وشط بها ركب الهوى في طريق الغواية.
ها هو يندب حظه ويقول لنفسه كأنه يرثيها, وهو يصارع شطط أفكاره لينتصر عليها , فلديه عمل في صباح الغد ينتظره والسكون يفرمنه كما يفر الهارب من الموت:
ماذا دهاني؟! أهو الحب المجنون , أم الطبع المأفون ؟! من يدفع ذهني ـ دون رغبة مني ـ في أزقة النكد , والشرود بأغوار المخاوف ومزالق المتالف؟! مالي ومستنقع التيه ومهاوي الأحزان؟!! كيف ولجتُ إليه ولم أستطع الخروج منه؟!!.
والهف نفسي على نفسي , من يخرجني من هذه الطينة اللزجة , إني أغرق في بحرها كلما بحثت عن مكنون الصورة !!.
يا لجنوح الأفكار وتشعبها حين تدهمها الصوارف , وتناديها الهواتف , كيف تنحني وتهبط .
كلما ألزم العقل شلالها بالتوقف عصته وتمردت !! وكلما وعظها بعدم الاكتراث بسهام الوساوس المتفرعنة , والنزق المتسلطن , أعرضت ونأت بجانبها!!.
يا لحسرتها حين لا تستجيب من غزارة ما يلقي الخناس من النزغ يخوف به أولياءه ... أتراني منهم وقد احتوتني نفثاته , واعترتني نزغاته!! . ويلي وويل أمي لو تبعت خطواته!! لقد ابتلعتني المصيبة ووقعت في شراكها اللعين ... أتراني فقدت كياني وتبعت شيطاني , فلم أعد أجد الصواب في تفكيري إلا لمما؟! ما هذا الهم الذي يجثو على صدري فلا يبرحه , يا لشدة مابي!! من صغيرة لم أستطع تحملها كيف لو كانت أكبر منها ماذا سأصنع!!.
ثم انتفض كالمسعورـ وكان مستلقيا على ظهره ـ ينفض فراشه ويعيده , ويطفئ مصباحه ويضيئه , ويدثر نفسه بغطائه ثم ينزعه , يتقلب في الفراش يمينا وشمالا وعلى ظهره حينا وبطنه حينا آخر , كالذي أصابه الشيطان من المس ... خائر القوى لا يدري ما يفعل ؛ كي يستقر ذهنه من الدوار, وفكره من السعار....يا لهوان عقله وقلة صبره , لقد رسمتْ المشكلة أثرا نفسيا بالغا عليه, وجرحا عميقا نازفا فيه!! تعبث به النفس الحائرة حال ضعفها.
وما يزال يبحث له عن آسٍ يرفوه , وطبيب يضمده , فكلما لملم أفكاره وطمأن أنفاسه بما يستعرض من محاسن محبوبته وصفات جميلته , نفخ الرجيم بالون شكه وألقى بثعابين وساوسه , في مسبح طهره , فأيقظ فتاة الغيرة في نفسه!! واجتمعت عليه , فهي مهرولة في شريان قلبه وفكره!! تعدُو زاحفة , كزحف الرمال حين ينفضها الريح ـ نفض الأسد للبؤة ـ بأجنحته وأرياشه , فانظر كيف يكون حال هذا المسكين وهي تسبح في كل أنحائه وكيانهّ!!.
ما يكاد يقضي عليها بسهام نظرات صحوه , وسيف معرفته ـ كي يهدأ بالا ويسكن نفسا ـ حتى تعاوده وتتغلب عليه , ويعود منتكسا في دوامته يتخبط بين شواظها من جديد!! يغتلي بهموم وساوسه المسجورة التي تنهشه , ويصطلي بمخاوف غيرته المذعورة التي تأكله! فكأنه دمية بيدها تحركه كيف شاءت! إنه لا يشعر بمن حوله من شدة تألمه!! حتى أن أمه أحستْ بمصابه وانعدام حضوره , وهي تدعوه لطعام العشاء , قبل إن يلج غرفته ويغلق عليه بابه , ولم يجبها لأول مرة ـ عما تسأله رغم إلحاحها ـ بما آلم به.
استمرتْ زوبعة الأوهام تطارده طيلة ليلته , حتى ظفرت به وشظت أنفاسه , ومزقت سكونه!! مضاف إليها صراعه المرير الذي زاد الطين بله ؛ كي يصرفها ؛ ليخلد النوم إليه أو يخلد هو إلى النوم , ولا مناص , فكلما حاول أن يصرفها ويغمض عينيه , مغريا السكون أن يحل عليه , عادت رغم أنفه تأكل قلبه , حتى هبَّ نداء الفجر ومعه نسمة من خاطر تسللت إلى نفسه ؛ فأذهبت همه و بددت حزنه , وذلك حين قرر بأن يتعرف على أقارب سمية ؛ ليطمئن قلبه , لعله يهتدي إلى من عانقت الصورة ظلها وظله , وذلك لن يتأتى له إلا بتعجيل الزفاف ...
عندها اطمأن بأنه سيلقى حبيبته بصدر منشرح كما كان يفعل, فلم يكن واثقا قبل هذا الخاطر من تفشي اضطرابه إليها من أول لقاء بها.