يُحكى ,,,1
يحكى أيّها الملك السّعيد,أن حرباءَ شاباً قد تركَ كهفهُ وخرج يسعى ,,,وكان في نيّته هدفٌ يتمنّى أن يصله ,ولكن ليس بجهدٍ وكدّ كما الشرفاء ,,ولا بتعبٍ وسهرٍ كما الأبرار , بل بالمكر والخداع, وتتغير لونَه كما الحرباوات.
وأنت تعلم يا شهريار,أن الحرباوات تمتلك هذة الموهبة الفذّة منذ الأزل ,ولكنها تستعملها بقصدِ الدفاع عن نفسها, وبتأثير الغريزة البدائية البريئة .
واقتبسها الإنسان, بدافع غريزةٍ قذرةِ الأهداف ,وغير بريئة .
وصادف أن رأى هذا الحرباءُ أمامه جبلاً أبيض ,يسكنه أناسٌ من عشّاق الحمام , يشغلون كلّ يومهم بتربية الحمام الأبيض ,يُطعمونه ويهتمّون به ويُسكنونه علّياتِ بيوتهم, يلعبون معه, فرحين,,, إن طار الحمام ,وفرحين,,, إن حطّ الحمام ,أما أكلهم وشربهم ومعيشتهم ,فكانت مما تجود عليهم الأحلامُ يوماً بيوم ,أو ليلة بليلة .
قرّر الحرباء الفتى غزوَ الجبل علّه يجد ضالّته هناك ,فأخذ يتسلّق السفح الأبيض , لاهثاً, وقد انقلب لونُه أبيض ناصعاً كلون الصخور والطيور هناك.
ومن حسن الحظ الذي يأتي أحياناً بدون مناسبة, كان هناك فتاةٌ صغيرة تلعبُ وحدها, تتسلّق الصخورَ تارةً , تغمضُ عينيها تارةً, وتدورُ حول نفسها ,ثم تحدّق مسحورةً ببريق تلك الصخور الذي يشعّ وينطفىء حسب أمواج البصر .
فتحت الفتاةُ عينيها مرةً بأمرٍ من القدر فرأت الحرباء ,استغربت الصغيرة أمر ذلك المخلوق الغريب, لكن فضولها بدأ يدفعُها إليه بوجلٍ وحذر ,ولما تأكّدت أنّه مخلوقٌ مسكين كما أظهرَ نفسه, ركعت أمامه تتأمّله بلهفةٍ ومودَةٍ وانعطاف ,وظنّت أنّه زغلولُ حمامٍ قد تاهَ, أو فقد أمّه, أو فقد جناحيه عند بعض الأعداء قساةِ القلب .أخذت الفتاة تكلّمه وتواسيه بأرقّ وأعذب الألفاظ في الدنيا ,وأخذت تمرّرُ كفَّ يدها الصغيرة بحنانٍ فوق رأسه وظهره, وتعِدُه أنّها لن تتركه أبداً ,وكان هو يتمادى بالخداع والمسكنة, واكتساب اللون الناصع .
وعندما أحسَّت بوجوب العودة للبيت, اقتربت منه كثيراً, وأخبرته بصوتٍ خافت, أنّها ستذهب وتعود حالاً لاصطحابه معها, وأن عليه أن يطمئنَّ تماماً ولا يقلق ,ولا يتحرّك من مكانه حتى تعود .
ومثل حمامةٍ نقيّةٍ جميلة, طارت بأقصى سرعتها وهي تلوّحُ له بيدها وتبتسم بسعادة.
ظلّ الحرباء ساكناً منتظراً قلقاً, يقلّب عينيه التي تشبه( الرادارات ) في كلِّ اتجاه, وسرعان ما رأى الفتاةَ قادمةً اليه تطير طيرانا .
فاطبقَ جفنيه ,وتظاهرَ بالهدوء التّام, والوداعةِ والاستسلام الكلِّي .
وصلت الصغيرة وهي تغرّد فرحاً , وأخذت تخبره عن المخدَّة الحريرية البيضاء التي أحضرتها كي تنقله عليها بسلامةٍ للبيت.
رفعته الفتاةُ بحرصٍ شديد, ووضعته على المخدّة, حملتها وتوجهت لبيتها.
طول الطريق , كانت تمشي برويّةٍ وتبصُّر مخافةَ أن تتعثّر فيقعَ منها أو تقع وإياه فيتأذّى, ولم تكن تتوقف أبداً عن النظر اليه والتكلّم معه وكأنها أم تحرص على وليدها ,,حتى من نفسها .
نادت الفتاة أهل البيت, فهرعَ الجميعُ وتجمّعوا حولها , قصَّت عليهم الحكاية ,ففرحوا فرحاً عظيماً وهم لا يرفعون أعينهم عن هذا المخلوق. علِمَ الجيرانُ بالأمر , ثم القرية كلها.
توافدَ النّاسُ جماعات جماعات, فرحين مهلّلين ,تملؤهم الغبطة والسرور والسعادة, يتسابقون ليقدّموا له الخدمات والعون, ريثما تنمو أجنحتُه ويشتدُّ عودُه ويصبحُ جاهزاً للطيران والتحليق مثل غيره من الحمائم التي تعيش مع سكان الجبل الأبيض .
أما هو,, فقد كان في غاية الإنشراح, لدرجة أنّه لم يصدق نفسه ,بل ظنّ أنّه في حالةِ حلمٍ لذيذ .
مرّت الأيام وصاحبنا يتمتّع بالدفء والأمان وكل ما لذ من طعام وشراب وراحةٍ ونظافةٍ وأُنس, كان ينام كلّ ليلة قائلاً في سرِّه ~إنهم فعلاً جماعة طيبة~.
تعافى الحرباء الشاب ,وتحسَّنت صحتُه, فبدأ ينسى أنّ الجماعة التي تعتني به فعلاً جماعة طيبة ,وصار يحدِّث نفسَه أحيانا بأن هؤلاء الناس مجرَّد زمرة من الأغبياء .
ماسة
يُحكى ,,,2
يحكى أيّها الملك السّعيد أنّ الحرباء الشّاب بدأ يحدِّث نفسه بأنَّ هؤلاء النّاس ليسوا سوى زمرةً من الأغبياء .
وأنت تعلم يا شهريار مقدار الدَّهاء والمكر في قلوب هذا النَّوع من الزواحف والمتسلقين .
بدأ الوسواسُ الخنَّاس يحدِّثة أنَّه على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّةِ والعظمة ,ويجب أن يكون هو السيّد الأعظم بلا منازع , وهم فقط عبيدٌ يطيعون ,وصارَ طبعُه الخبيث يتحرك ويدلّهُ على مواطن الشّرِّ في نفسه, و رسخ بباله أنّ المعاملة الطيّبة التي يحصل عليها, ما هي إلا حقّه الذي لن يتنازل عنه أبداً !!.
وسرعان ما وصلت هذة الإشارات التي تُحسّ ولا تُرى للمواطنين أصحاب المزاج الشاعريّ النقيّ, فبدأ المللُ يتسَّرب إلى أعماقهم, وصاروا ينفضُّون من حوله, ويشعرون بالاشمئزاز والإحباط, خاصةً وأنهم قد لاحظوا بأنّه لا أمل من بزوغ أية أجنحةٍ لهذا المخلوق , وبعد أن لمسوا أشواكاً تنمو وتزدادُ قساوةً حول عنقه مع مرور الوقت.
صار البعضُ يمقته, والكلّ يتركه لشأنه ,والفتاة الصغيرة تخافه وتتجنَّبه, لكن أحداً لم يفكر بطرده او إيذائه ,واكتفوا جميعاً بإهماله وتركه لشأنه.
لم يعجب هذا الإهمال الضيف الكريم الذي تعوّد التدليل والإهتمام, فأصابه غضبٌ شديد ومشاعرٌ هستيرية, وأخذت نفسه الخبيثه تحدِّثه بايذاء من في الجبل جميعاً, فصار يخرج كلّ صباح, ويجوب المنطقةَ شرقاً وغرباً ,مسرعاً غاضباً علّ أحداً يوقفه ويسأله ما به, ولكن الجميع كانوا ينظرون اليه نظرةً باردةً لا معنى لها,,, ولكن بصمت , فيزدادُ غضبُ الشاب ونقمتُه وسوداويتُه .
إلى أن جاء يوم, وحملته أقدامُه الغاضبة إلى قمة الجبل دون أن يدري,
وهناك,, نظر حوله فلم يجد أحداً , إذ أنّ المكان كان خالياً تماماً, فبدأ يبكي بكاءً مراً, ويصرخُ بأعلى صوته, ويضربُ نفسَه بالصخورِ البيضاء من شدَّة حنقه وغضبه وحزنه, وظلّ يفعلُ هذا بنفسه حتى غاب عن وعيه تماما.
وعندما استيقظ ,لم يكن يدري كم مرَّ عليه من الوقت وهو على هذة الحال, وعلى هذة القمَّة الخالية ,,,ولوحده .
نظر للبعيد, والحيرةُ تأكله, فإذ به يرى جبلاً ترابياً لا يبعد كثيراً,, فقرَّر فوراً اللجوء لذاك الجبل الجديد ,وخاصة أنَّ جوعه لم يَعُدْ يُحتَمَل, ولم يَعُدْ هناك أيّ أملٍ بمعاملة طيّبة هنا في الجبل الأبيض .
وعلى الفور,, ,انحدر الحرباء الشاب نزولاً, قاصداً الخروج منه,, وألى الأبد .
في طريقه ,,,كان يلتقي ببعض الأهالي, ولكن لم ينظر إليه أو يسأله أحد , ماذا يفعل, وإلى أين يذهب ,حتى غاب عن الأنظار مواصلاً رحلته, زاحفاً لاهثاً مسرعاً نحو جبل الطين.
تغيَّر لون الفتى فوراً للّون الترابي بكلِّ تفاصيل هذا اللون الدقيقة وغير المرئية, حال وصوله أطراف الجبل ,وظل دائباً على اكتساب لون التراب حتى صار يشبه قطعة طينٍ متحركة .
ألى اللقاء في يحكى ,,3
ماسة